شروع المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في جرائم الاحتلال أصبح ممكنا
في تطور هام وإيجابي باتجاه ممارسة المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها في التحقيق الجنائي في الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكدت المدعي العامة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي فاتو بنسودا الأسبوع الماضي أن للمحكمة صلاحية التحقيق في “جرائم الحرب في فلسطين”.
جاء ذلك في وثيقة من 60 صفحة كتبت فيها بنسودا: " نظر الإدعاء بعناية في ملاحظات المشاركين وما زال يرى أن للمحكمة اختصاصا على الأرض الفلسطينية المحتلة ".
وأكد مكتب المدعي العامة بالجنائية الدولية في هذا التقرير الذي رفعه إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة، حق فلسطين في التوجه للمحكمة الجنائية، ويوضح التقرير الأسباب والكيفية التي تمكّن المحكمة من ممارسة الولاية القضائية على الجرائم المرتكبة على أراضي فلسطين، ويحدد التقرير بشكل واضح الولاية الجغرافية للمحكمة على فلسطين، ويجعل مباشرة التحقيق الجنائي قريب المنال.
وبذلك حسمت بنسودا الجدل حول اختصاص المحكمة في التحقيق في جرائم الاحتلال الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من الضغوطات والتهديدات التي مورست على المحكمة الجنائية الدولية خاصة من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لمنعها من التوصية بمباشرة التحقيق في هذه الجرائم.
وكانت فاتو بنسودا المدعي العامة في المحكمة الجنائية الدولية أعلنت في كانون الأول/ديسمبر 2019 أنها تريد فتح تحقيق شامل في “جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية”، ما أثار رفض وغضب إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حينه إن هذا القرار يجعل من المحكمة الجنائية الدولية، التي رفضت إسرائيل الإنضمام إليها منذ إنشائها عام 2002، “أداة سياسية” ضدّها مكررا اتهامها بـمعاداة السامية. من جهته عبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن بلاده تعارض بـ”حزم” فتح تحقيق بهذا الشأن، وقال في حينه: “نحن نعارض بحزم هذا الأمر، وأي عمل آخر يسعى لاستهداف إسرائيل بطريقة غير منصفة”. وأضاف: “لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية”. وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون هدد بالقبض على قضاة المحكمة في حال تحركوا ضد إسرائيل والولايات المتحدة.
وقد رحّبت فلسطين بتقرير مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية الأخير، حول اختصاص المحكمة بالأرض الفلسطينية المحتلة، وفي بيان صادر عن وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني رياض المالكي، قال فيه إن المدعية العامة للمحكمة الجنائية فاتو بنسودا أكدت الحقائق التي تنسجم مع كون الولاية الجغرافية للمحكمة الجنائية تقع على الأرض الفلسطينية المحتلة، والتي تشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة. ودعا الوزير الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار قرارها بأسرع وقت ممكن، معتبرا أن قرارها الصحيح المتسق مع قواعد العدالة الدولية سيكون بمثابة إنهاء حقبة طويلة من الحصانة، والإفلات من العقاب لمرتكبي الجرائم التي تقع ضمن اختصاص المحكمة. من جانبه، وصف أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات تقرير المدعية العامة للمحكمة الجنائية بأنه خطوة شجاعة في الاتجاه الصحيح، نحو فتح التحقيق، وأكد عريقات -في بيان- أهمية هذه الخطوة باعتبارها تسهم في حماية حقوق الشعب الفلسطيني من جرائم الاحتلال، مؤكدا أن وصول فلسطين إلى هذه المرحلة يبعث رسالة أمل للشعب الفلسطيني بقرب فتح التحقيق الجنائي ضد المسؤولين الإسرائيليين، الذين ارتكبوا جرائم حرب بحقه. وأكدت -في بيان لها باسم اللجنة التنفيذية- أن الشعب الفلسطيني وقيادته واثقون في منظومة العدالة والمحاسبة التي تمثلها محكمة الجنايات الدولية، باعتبارها محكمة مستقلة تسعى لضمان محاسبة مجرمي الحرب حول العالم على ما ارتكبوا من فظائع.
وفي ردّه على هذه الخطوة، قال المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان (مقره جنيف) إن تقرير الجنائية الدولية خطوة مهمة تفتح الباب لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا الفلسطينيين لجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل بالضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
ودعا المرصد كافة الأطراف ذات العلاقة والضحايا وذويهم إلى الاستعداد لتقديم شهاداتهم والدلائل المتوفرة لديهم، لمساعدة مكتب المدعية العامة للمحكمة الدولية في عمليات التحقيق المتوقعة.
لا شك أن شروع المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أصبح ممكنا الآن، أكثر من أي وقت مضى، بعد هذا التطور الهامّ الذي جاء في تقرير المدعي العام للمحكمة، خاصة أنه جاء منسجما ومتطابقا مع النظام الأساسي لميثاق روما المؤسس للمحكمة للجنائية الدولية، وبعد أن أصبحت دولة فلسطين طرفا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ابتداء من 1/4/2015.
المادة (13) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قيدت الحالات التي تمارس فيها المحكمة اختصاصاتها على الجرائم الوارد ذكرها في المادة (5) من ذات النظام، ومن ضمن هذه الحالات هي الإحالة من قبل دولة طرف، حيث تقوم الدولة الطرف، بإحالة حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر قد ارتكبت على إقليمها، تدخل في الاختصاص الموضوعي للمحكمة، فتطلب من المدعي العام التحقيق فيها، على أن تقوم الدولة بتقديم كل الوثائق المتوافرة لديها لتدعيم ادعائها، وبتاريخ 22/5/2018 تلقت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إحالة من قبل فلسطين طلبت فيه إجراء تحقيق وفق الاختصاص الموضوعي والزمني للمحكمة الجنائية الدولية، في الجرائم المرتكبة في الماضي والحاضر والتي سترتكب في المستقبل في جميع أنحاء إقليم دولة فلسطين، عملا بأحكام المادة (45) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
أن اعلان المدعي العام للمحكمة في كانون الأول/ديسمبر 2019 أنها تريد فتح تحقيق شامل في “جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية”، وقراراها الأخير الأسبوع الماضي أن للمحكمة صلاحية التحقيق في “جرائم الحرب في فلسطين” كل ذلك يؤشر إلى أن شروع المحكمة في التحقيق في جرائم الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة أصبح مسألة وقت، وأن كل الضغوطات والتهديدات الإسرائيلية والأمريكية لثني المحكمة عن بدء التحقيق في هذه الجرائم، لن تمنع المحكمة عن ممارسة هذا الاختصاص، وإن كان ذلك يحتاج وقتا ليس قصيرا، ولكن هذا الموضوع أصبح في طريقه إلى الحسم.
وسوم: العدد 875