حزب الله يتخطّى... حدوده
الواضح أنّ حزب الله قد تخطّى حدوده الزمنيّة والمكانيّة بحيث لم تعد مقاومته محصورة في القتال ضد إسرائيل ولا حتّى باتت الـ10452 كليومتر مربع تتسع لمشروعهِ الذي تخطّى هو الآخر أضعاف حدودِ هذه المساحة إلى أن استقرّ في اليمن، بعدما كان استقرّ لسنين، في بعض دول المنطقة.
مع بداية تكوينه الفكري العقائدي، ارتكزت أُسس "الأدلجة" في حزب الله على إنشاء وتطوير جيلٍ قادر على مواجهة العدو الإسرائيلي بالسلاح لكن مردود ديني تقوم ركائزه على الإعداد والتحضير لبناء دولة إسلاميّة في لبنان تستمد قوّتها العسكرية ومنظومتها السياسيّة والدينية من الجمهورية الإسلامية في إيران التي كانت قامت حديثًا عقب الثورة التي قادها الخميني بعد إطاحته بالنظام الملكي في عهد الشاه رضى بهلوي.
من مجرد تنظيمٍ سري لمقاومة الإحتلال بكلّ أشكالهِ (إسرائيلي فرنسي أميركي)، تحوَّلَ "الحزب" إلى لاعبٍ أساسيٍّ على الساحة الإقليمية يتقاسم مع الكبار النفوذ مع حصّةٍ وافرة من "قالب الجبن" تشهد لها المناطق التي يتوزّع فيها والتي تمتدّ من لبنان مرورًا بسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن. لكن هذا الإنتشار كانت له المفاعيل السلبيّة على لبنان واللبنانيين الذين ما يزالون يحصدون نتائجه حتّى اليوم مع مفعولٍ رجعيٍّ يعود زمن خطف الرهائن وتفجير سفارات أجنبيّة ومن دون القفز على الأضرار الكثيرة التي لحقت بعددٍ من الدول العربية، والتي كان لها التأثير الكبير على علاقاتها بلبنان وشعبه.
من الزاوية الداخليّة وما تختزنه من تجارب كان لـ"حزب الله" وما زال البصمة الكُبرى فيها، يُمكن التأكد بأنّ لبنان لم يعد سوى تفصيلٍ صغير بالنسبة الى "الحزب" قياسًا مع حركته الإقليميّة ومشروعه "الإنغماسي" الذي كان افتتحه في "البوسنة" كما سبق وورد على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله والذي عاد وثبّته في العام 2012 من خلال دخوله كطرفٍ محوريٍّ في العراق قبل أن يتحوّلَ إلى فريقٍ أساسيٍّ في الحرب السوريّة. وبفعل هذا التوسّع، أصبح من الواضح أنّ رؤية "الحزب" قد تخطّـت فعلًا الكيان اللبناني، وهو اليوم يكتفي بالقيام بدور "المُرشد" لحلفاءٍ يقومون بالأدوار الموزَّعة عليهم على أكملِ وجهٍ.
من الناحية السياسيّة، ما من عيبٍ يراه حزب الله في هذا الدور الذي يقوم به، ولا أي حرام من الناحية الشرعيّة إذ يقول مقرّبون منه، أنّ منظومة هذا الحزب قامت منذ البداية على نُصرةِ المظلومِ في الكرة الأرضية وربما الجميع يذكر يوم وجَّهَ نصرالله التحيّة إلى الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز يوم اشتدَّ الخناق الأميركي حول بلاده، ولذلك فإنّ أيّ مكانٍ تطأه قدم حزب الله، فمن المؤكد أن هناك قضيّة عادلة ومُحقّة تستدعي هذا التدخل.
لجهةِ الإنعكاسات السلبيّة التي ارتدَّت على لبنان وشعبه من جرّاء هذه التدخلات، وتخريب العلاقات مع الدول البعيدة والقريبة العربيّة بدأنا نحصد نتائجها منذ أشهر، تبدو من وجهة نظر هؤلاء المقربين أنها ضريبة لا بد من دفعها بعدما ثبَّـتَ محور "المقاومة" معادلة جديدة في المنطقة تقول أنّ زمن الإستضعاف قد ولّى، وهذا المحور تحوّل إلى لاعبٍ أساسيٍّ في كل ما يجري وبالتالي لم يعد بالإمكان تجاهل مطالبه، ولا حتّى حرف البوصلة بحسب ما تشتهي البوارج الأميركية والإسرائيليّة.
من وجهة نظرٍ أخرى، ثمّة من يُطالب "الحزب" بتحديدِ خياراتهِ، فإمّا أن يُحافظ على هويّته اللبنانيّة وأن ينخرطَ فعلًا وقولًا بالكيان اللبناني وأقرب طريق لهذا التوجّه هو وضع سلاحه تحت إمرة الدولة، أو أن يُعلن التزامه الكامل بمشروع "ولاية الفقيه" كما سبق وعبَّرَ السيّد نصرالله عن اعتزازه وفخره بهذه الولاية.
يبتسم خصوم حزب الله عند الحديث عن "التنازلات" التي قدَّمها في الشقين العسكري والسياسي وربما العقائدي. في العسكر لطالما ذهب قادة "الحزب" إلى حدودِ القول أنهم قدموا الشهداء والجرحى في سبيل هذا البلد وأمنه من دون أن يُطالبوا بأيّ مُقابل. وكذلك الأمر في السياسة، من خلال تنازلهم عن بعض الحقوق والمكتسبات بهدف تسيير أمور حكومات من خلال منحها الفرص والتغاضي أيضًا عن بعضِ الحصصِ أو الحقائب.
وفي الشقّ العقائدي، يعتبر حزب الله أنّ تنازله عن فكرة إنشاءِ أو السعي إلى تأسيسِ دولةٍ إسلاميّة في لبنان، وتثبيت شعار "المقاومة الإسلامية في لبنان" على رايته بعدما كان "الثورة الإسلاميّة في لبنان" وذلك إحترامًا لمشاعر الطوائف الأخرى، هو أكبرُ دليلٍ على أنّه فضّل مصلحة الوطن على مصالحه الشخصيّة، ولو على حساب مبادئه والأُسس التي قامت عليها حركته المقاومة.
أحد هؤلاء الخصوم يكتفي بالرد على "إدعاءاتِ" حزب الله أو "تمنينه" اللبنانيين بما قام أو يقوم به، بروايةٍ تقول: يُحكى أنّ صيادًا اصطاد مجموعة من العصافير في يومٍ بارد، ثم وضعها أمامه، وصار يذبحها واحدًا تلو الآخر، والباقي ينظر ويتفرّج. وكانت دموع الصياد الجزار تنزل من عينيهِ بسبب البردِ القارسِ والريح الشديد، فنظر عصفوران إليه وإلى دموعه، وقال أحدهما للآخر: "انظر إلى الصياد المسكين، كيف يبدو حزينًا على ذبحنا، إنه يبكي شفقة علينا ورحمة بنا!"، فقال له العصفور الآخر بفطنةٍ وذكاءٍ: "لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى فعل يديه".
وسوم: العدد 875