شد الحبل بين الطب التقليدي والطب العصري
يوجد الطب التقليدي أو الطب البديل في كل مناطق العالم . 40 في المئة من البالغين في المجتمع الأمريكي يستخدمون نوعا واحدًا على الأقل من الطب البديل. وتفيد منظمة الصحة العالمية أن الطب التقليدي يشكل حوالي نصف خدمات الرعاية الصحية في الصين ويشكل ما يناهز 80 في المائة من الخدمات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وبالتالي قد يكون للطب التقليدي آثار كبيرة على الصحة العامة في جميع أنحاء العالم.
يعتمد كل من الطب التقليدي والعصري معا على مفاهيم متميزة للصحة والمرض مثل
Unani Tibb التي تعني "الطب اليوناني" بالعربية وهو نظام طبي تقليدي شائع في جنوب آسيا يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر ويستند إلى تعاليم الطبيبين الرائدين أبيقور وجالينوس. في هذا النظام التقليدي تتطلب الصحة التوازن بين الدعامات الأربع للدم والمخاط و المخاط الأصفر والمخاط الأسود بالإضافة إلى الدعامات الأربع للحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف. فالأمراض تنشأ بسبب الاختلالات في هذه القوى وتحاول علاجات الطب التقليدي من خلالها استعادة التوازن للصحة . وعلى غرار ذلك فإن الأيورفيدا والطب الصيني التقليدي يستحضران أيضا مفهوم التوازن الصحي.
في المقابل يعتمد الطب العصري جزئيًا على نظرية الجراثيم التي تنص على أن الكائنات الحية الدقيقة غير المرئية تسبب العديد من الأمراض. وتعد نظرية الجراثيم هذه اكتشافًا حديثًا اكتسب قوة الإقناع في ثمانينيات القرن التاسع عشر من خلال أعمال لويس باستور وآخرين. وإذا كان البعض قد استند إلى هذا النموذج على النحو الدقيق يرى آخرون إنه ليس من الواضح على الإطلاق أن الميكروبات غير المرئية موجودة ويمكن أن تسبب الأمراض. أما بالنسبة لأولئك الذين يعارضون الاكتشافات العلمية قد يبدو النموذج التقليدي بالنسبة إليهم معقولًا وفكرة الإصابة بالميكروبات غير المرئية فكرة وهمية فقط.
إن استبدال الطب التقليدي والعصري أحدهما بالآخر مسألة طبية عامة وحاسمة. قد يكون الشخص الذي يؤمن كثيرا بالطب التقليدي أقل تجاوبا مع التوصيات والنصائح الطبية العصرية . مثلا لماذا سنستخدم الواقي الذكري للوقاية من فيروس نقص المناعة المكتسبة إذا كان السحر هو الذي يتسبب في الإيدز؟ ولماذا سنتجنب أخطار تلوث الهواء باستخدام الكمامة إذا كانت الأعشاب قادرة على تنقية وحماية صحة الجسم ؟ علاوة على ذلك بما أن جميع البشر لديهم إمكانيات مالية محدودة فقد تؤدي النفقات الطبية التقليدية إلى التقليل أو إلغاء النفقات الطبية العصرية . كما أن المعتقدات الطبية التقليدية قد تخفض أيضًا من تأثير الحملات الإعلامية الصحية العامة حيث في إحدى الحملات النموذجية قدم العاملون في قطاع الصحة رسائل توجيهية وتوعوية حول أضرار الصرف الصحي وفيروس نقص المناعة المكتسبة والرعاية الصحية للرضع من منظور طبي عصري. وجاءت فعالية هذه الحملات متذبذبة وربما ذات تأثير جزئيً لأن الناس المستهدفين من الرسالة لم يجدوا دائمًا الرسائل الصحية ذات مصداقية.
لقد بحثت الدراسة الأخيرة التي أنجزها دانيال بينيت بمعية مساعدين هما "أسجد نكفي" و"ولف بيتر شميدت" حول ما إذا كانت المعتقدات الطبية التقليدية تخفض من تأثير معلومات النظافة في المناطق الريفية في باكستان حيث في هذه المنطقة يعتبر الإسهال سبباً رئيسياً لوفيات الرضع والأطفال كما أن النظافة والصرف الصحي منعدمان بها تماما. ووجدا أن هناك تمييز صارخ بين مقاربتي الطب التقليدي والطب العصري فيما يخص الإسهال. فالطب التقليدي يصنف الإسهال على أنه مرض "ساخن" (وهو تصنيف لا علاقة له بدرجة الحرارة الجسمية) ويوصي بأن يعيد الناس التوازن الصحي عن طريق تجنب السوائل والأطعمة الساخنة. إذا كانت الأم فلاحة تعمل في الحقول فإن بعض مقدمي خدمة الطب التقليدي ينصحونها بحجب حليب الثدي عن رضيعها المصاب بالإسهال. وتتناقض هذه الوصفة بشكل مباشر مع الطريقة العصرية المؤكدة في معالجة اجتفاف الأطفال عن طريق التطعيم الفمي.
لقد قمنا بتقييم نجاعة معلومات النظافة من خلال برنامج يسمى " التوعية الميكروبية" يتيح هذا البرنامج تعليم أسس النظافة للمشاركين في فصول محو أمية الكبار. ولجعل رسائلهم لها أكثر مصداقية استخدم مديرو البرنامج أولاً الميكروسكوبات لإظهار البكتيريا اليومية التي تعيش في أوساط البيئة المجتمعية . وقد لوحظ أن هذه الخطوة المبتكرة قد زادت من تأثير دروس النظافة لاحقا وأن البرنامج كانت له آثار هامة جدا وذات دلالة إحصائية إيجابية على النظافة وصحة الطفل بعد عام ونصف فقط.
ومع ذلك كان التدخل غير فعال تمامًا بالنسبة لمجموعة فرعية مهمة. فقد أنشأ دانيال بينيت فهرسًا لالتزام الطب التقليدي وفقًا لمعتقدات المستجيبين الأساسية. بعد ذلك قام بتقسيم العينة ووجد أن هناك علاقة عكسية بين قوة معتقدات الطب التقليدي وتأثير التدخل. وأظهر الأشخاص ذوي المعتقدات الهشة استجابة قوية ودالة فيما أولئك الذين لديهم معتقدات قوية استجابوا بالكاد. وإدراكًا منه بأن معتقدات الطب التقليدي يمكن أن تكون مرتبطة بالعديد من الخصائص الأخرى فقد فحص دانيال بينيت عديدا من المتغيرات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية ولكنه لم يتمكن من نفي تلك النتيجة. يشير هذا التخطيط إلى أنه في هذا السياق تتداخل معتقدات الطب التقليدي مع تعلم شروط النظافة.
أعترف بأن هذا الاكتشاف يغطي فقط سلوكًا صحيًا واحدًا (النظافة) في سياق أحادي هو (ريف وقرى باكستان) وأن هناك اختلافات في العلاقة بين الطب التقليدي والطب العصري. ورغم ذلك لا يوجد أي بحث يفحص الحشود الطبية العصرية والتقليدية بغض النظر عن السياق. ومن المؤكد أن مدى الاستبدال بين الطبين التقليدي والعصري يعتمد على المرض والنظام الطبي وعوامل أخرى تسير في نفس السياق. إن الأمر يتعلق بموضوع رئيسي في الصحة العامة يحتاج إلى مزيد من العمل في هذا المجال. يجب على مناصري الطب العصري أن يدركوا أن الناس قد لا يقبلون دائمًا بالخطاب المتعلق بنظرية الجرثومة في ظاهرها وأن يتخذوا خطوات استباقية للتغلب على الشك في المجتمع.
ترجمة بتصرف عن مقالة للكاتب دانييل بينيت
وسوم: العدد 876