مفهوم الجريمة والعقوبة، بين الإسلام والمجتمع الأوروبي 1+2
[ باختصار وتصرّف من كتاب نظرية العدل، لجمال البنا ]
1 من 4
مع التماهي والتوافق بين العقوبة والعدل في التشريع الإسلامي، فإن الفكر الأوروبي له منطلقات مجافية لهذا المفهوم. فالجذور الحضارية للمجتمع الأوروبي تعود إلى اليونان فالرومان فعصر الإحياء، ثم عصر التنوير وما تلاه ذلك حتى الحقبة المعاصرة. وجذرُها جميعاً هو "الإنسان"، وفلسفتها جميعاً من الإنسان للإنسان، وليس للدين من دور حقيقي، لأن أوروبا وثنيةٌ، إلهها هواها. وقد فعلت بالمسيحية الأفاعيل لتطوّعها طبقاً لمفاهيمها. ونظمُها السياسية هي صورة مطوّرة لما عرضه أرسطو في "السياسة"، ما بين ديمقراطية وأرستقراطية، فضلاً عن الديكتاتورية التي ابتدعها الرومان. من أجل هذا نقول: إن العدالة لم تكن أبداً من القيم الحاكمة في الحضارة الأوروبية، وإن الطريق إلى العدالة فيها ليس هو الحق ولكن القوة.
وقد أثمرت هذه الجذورُ الأوضاعَ الحالية للمجتمع الأوروبي. وأبرزُ هذه الأوضاع هو الوضع الديمقراطي الذي هو محلُّ فخر أوروبا ورمز حضارتها. وهو وضعٌ يُفترض فيه أن تكون السيادة للشعب، ولكنّ تجربة التاريخ تكرِّر في الحاضر ما حدث في أثينا وروما بصورة حديثة. إن آليات السوق، بالمعنى الاقتصادي وبالمعنى السياسي، تضع "سيادة الشعب" في يد التكتلات السياسية والاقتصادية التي عملت المنافسةُ وحريةُ العمل على إبرازها. ألا وهي الأحزاب والتكتلات الاقتصادية التي يمكن أن نطلق عليها "المؤسسات".
إن مأساة الحضارة الأوروبية هي أن الإنسان فيها ما إن يبدع شيئاً ليحرر نفسه، حتى ينقلب هذا الشيء عليه، لأنه يصبح في أيدي "المؤسسات". فعندما اخترع الآلة لتُحَرّرَه من الكدح العضلي، تصوّر "روبرت أوين" أن أربع ساعات عمل ستصبح هي ساعات العمل المقررة، إذ سيمكّن الآلات في هذه الساعات أن تغمر السوق بسلع ما كان يمكن للكدح العضلي أن ينجزها إلا بأسابيع... وتوصّل "دافي" إلى مصباحه الساذج ليؤمّن للفحامين النزول إلى أعماق ينعدم منها الأكسجين، وتوصل الإنسان إلى الطباعة وإلى الإذاعة وإلى التلفزيون ليثقف نفسه... لكنّ هذه النعم استُغلّت ضد الإنسان. فالرأسمالية تريد الأرباح الطائلة، وكان لا بد أن تسخر الإنسان ليعمل ساعات طويلة أمام الآلات، واستغل أصحاب المناجم مصبح "دافي" فأخذوا يزجُّون بالفحامين إلى أعماق سحيقة لتنهار عليهم المناجم!. أما الإذاعة والتلفزيون فقد أصبحت أقوى وسائل "المؤسسات" في الهيمنة على الفرد وتسييره حسبما تشاء. وأصبحت الكلمة الأخيرة في كافة المجالات للمؤسسات ولما تنتهي إليه المؤسسات من منطلق مصالحها.
على أن أوروبا تستحق مأساتها، وكما تكونوا يولّى عليكم، فقد كان لا بد من أن يحدث هذا، ولو لم يحدث لكان اختلافاً كمياً وليس نوعياً، لأنه إذا تُرك الإنسان لنفسه دون هداية من الله فلا بد أن يضلّ، فوهجُ الشهوات والعواطف والأهواء أشد جاذبية من نور الحكمة.
وكانت النتيجة أن المجتمع الأوروبي في تمجيده للحرية والعمل والانطلاق، وفتحه الباب للمبادآت الفردية تقبّل ضمناً، ومن باب الضرورة، خلال هذه الممارسات، ما يمكن أن يُعَدّ سرفاً أو شططاً أو يشارف مستوى الجريمة. إن الجريمة الحقيقية عنده هي السلبية والخمول والفقر. أما ما يمكن أن يأتي به العمل والحرية، كائناً ما كان، فتظل له فضيلة العمل والإقدام، ويمكن أن يمرّره المجتمع.
مفهوم الجريمة والعقوبة، بين الإسلام والمجتمع الأوروبي
[ باختصار وتصرّف من كتاب نظرية العدل، لجمال البنا ]
2 من 4
وكما أن آليات السوق جعلت من البطالة جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي، فإن هذه الآليات جعلت الجريمة أيضاً جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي، وأصبح كلٌّ من المتعطل والمجرم "ضحية" للنظم يستحق العطف، ومن هنا جاءت تلك الصيحة التي تنبعث تلقائياً من قاعة المحكمة عندما تعلن المحكمة تبرئة المتهم: "يحيا العدل"! دون تحقيق لما إذا كان العدل هو في تبرئة هذا المتهم أو إدانته.
وعمّق هذه النظرة وأضاف إليها بعداً جديداً غياب المعيار الموضوعي لتقرير العدالة، فالمفاهيم التي تطرحها آليات المؤسسات كلها ذاتية. ويمكن تتبُّع هذا من أثينا فروما فالحقبة المعاصرة. ففيها جميعاً كانت الفئات المميزة تتمتع بإعفاءات أو حصانات من المحاكمات أو العقوبات، وفيها جميعاً كانت الفئات الدنيا تُحمَّل بأثقال وتُجازى بعقوبات أضعاف ما تجازى به الفئات المميزة.
وقد حقق المجتمع الأوروبي ما دعا إليه ميكيافيلي من الفصل ما بين السياسة والأخلاق، كما حقق الفصل بين الاقتصاد والأخلاق الذي دعا إليه آدم سميث وماركس معاً. ونتيجة لهذا أصبح الهامش ما بين الخير والشر متآكلاً متداخلاً، ووجدت العدالة الأوروبية نفسها عاجزة أمام هذا التداخل ولم يكن مناص، والقيم الحضارية الأوروبية على ما هي عليه، من أن نشهد ظهور الجريمة المنظمة لدى "المافيا"، والتعاون ما بين بعض العصابات وسياسيين أو أجهزة أو مؤسسات، وآخر صيحة في هذه المسيرة هي "حقوق الإنسان" التي أضفت شرعية على صور من الانحراف لا يقتصر أثرها السيء على المقترفين لها، كما في العلاقات الجنسية الشاذة، ولكن أثرها يمتد إلى الآخرين فيما تحمله من عدوى تنقل الأمراض إلى الأبرياء، أو حرية إدمان المخدرات وما ينتهي إليه من استعباد المُدمن.
إن حاضر المجتمع الأوروبي اليوم لهو أكبر شاهد على جريرة التسامح مع الجريمة وغياب معايير موضوعية للعدالة تفرض على المجرم العقوبة التي تتكافأ مع جريمته. وهي قضية قد تذهب بكل منجزات الحضارة الأوروبية وتوهن من مقاومتها تدريجياً لوازع الشر، استسلامَها لوازع الربح. وقد تتبين الحقيقة لأن العلم شيء والإرادة شيء آخر، والقدرة شيء ثالث، وهي تتبين لأن العلم لا ينقصها ولكنها قد لا تريد، لاختلاط الشهوة بالألم، وإذا أرادت فقد لا تَقْدِر فقد تلوَّتْ عليها أفعى الجريمة.
وسوم: العدد 879