إننا نعرف الأمريكان من أصول إفريقية ولكننا لا نعلم شيئا عن الأصول الأخرى
إن عبارة " أمريكي من أصل إفريقي " المتداولة إعلاميا في الولايات المتحدة قد يفهم منها أنه توجد في المقابل أصول أخرى، ولكن لا يصرح بها كما يصرح بالأصل الإفريقي ، علما بأن الأصل الأمريكي لا يذكر أصلا ، وهو أصل السكان الأصليين الذين يسمون هنودا حمرا ، والذين تم استئصالهم إبان الغزو الأوروبي للقارة الأمريكية . وكان من الفروض أن يقال أيضا : " أمريكي من أصل أوروبي " حتى يتساوى الأصل الإفريقي مع الأصل الأوربي في الوفود على الولايات المتحدة خصوصا وباقي دول القارة الأمريكية عموما ، علما بأن الأوروبيين وفدوا عليها غزاة ، بينما أرغم الأفارقة على الوفود عليها كرقيق استعبدهم الغزاة الأوروبيون لاستغلال في أرض سلبت من سكانها الأصليين قهرا.
وذكر الأصل الإفريقي للمواطن الأمريكي يشعره أنه مجرد وافد ، أو أنه مواطن من الدرجة الثانية إن لم يكن من درجة أدنى من ذلك ،لأن الأمريكان من أصل أوربي ليسوا سواء ، ذلك أن فيهم من يفضلون أنفسهم على الآخرين ، بحيث لا يتشاوى الأنجلوفونيين مع اللاتينيين.
ومعلوم أن كل بلد يصنف مواطنوه على أساس لون بشرتهم أو عرقهم أو لسانهم يعتبر بلدا تسوده العنصرية وإن ادعى أهله أنهم ليسوا كذلك . والنزعة العنصرية من مخلفات المجتمعات البشرية المتخلفة التي كانت تسودها العبودية ، وقد قص علينا الله عز وجل بعض أخبارها كما هو الشأن على سبيل المثال في المجتمع الفرعوني حيث قال الله تعالى : (( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين )) . وليس المجتمع الفرعوي هو المجتمع الوحيد الذي كانت تسوده العبودية بسبب العنصرية العرقية .
وما يحدث اليوم في الولايات المتحدة من تظاهر بسبب تصرف عنصري من رجل أمن أبيض البشرة حيث خنق عمدا وظلما مواطنا أسمر اللون في الشارع العام أمام أنظار المارة ، وبحضور ومعاينة زملاء له بيض ، ولم يرحم استعطافه ،ولم ينصرف عنه إلا وقد أسلم روحه لباريها . ولو لم تكن العنصرية تجري في دماء ذلك الشرطي لما سولت له نفسه خنق ذلك الضحية ببرودة دم في بلد يجعل أهله أنفسهم أساتذة العالمين في سيادة القانون الذي يحمي الحريات المختلفة ، كما يحمي النظام الديمقراطي الذي على أساسه تصنف المجتمعات إلى راقية أومتخلفة.
وعلى الرئيس الأمريكي ينطبق المثل القائل " عذر أكبر من الزلة " لأنه عوض أن يستجيب لمطلب الشارع الأمريكي بتطبيق العدالة فورا ودون تلكؤ ، وذلك بخنق الشرطي بنفس الطريقة التي خنق بها ضحيته، قفزعن هذا المطلب متعمدا ليلوح بنفس الأسلوب الذي تصرف به الشرطي القاتل وهو ما جعله ينزل قوات الأمن والحرس إلى الشوارع ، و أكثر من ذلك يهدد بإنزال الجيش المدجج بالسلاح لمنع التظاهر السلمي الفاضح لتصرفات رجال الأمن في البلاد بذريعة أن هذا التظاهر يتخلله الشغب والفوضى ، وكان بإمكانه أن يقدم اعتذاره على جريمة خنق موطن أعزل عوض اللجوء إلى أسلوب الوعيد والتهديد .
وما وقع في الولايات المتحدة وقع من قبل حيث كان السود فيها يثورون بين الحين والآخر بسبب معاناتهم من الميز العنصري . وكان لا بد أن ينفجر الوضع بسبب ظرف جائحة كورونا التي عرّت صورة أكبر بلد صناعي في العالم وقف عاجزا أمام توفير الوقاية والعلاج من الفيروس التاجي الذي فتك فيه بأكبر عدد من المصابين ، وهو عدد فاق من ماتوا في كل بلد في أرجاء المعمور ، كما كشفت عن مداهمة البطالة للملايين من مواطنيه . ويعتقد البعض أن موت المواطن الأمريكي جورج فلويد إنما هو القشة التي قصمت ظهر البعير على حد قول المثل العربي ، والذي قصم ظهر البعير الأمريكي إنما هو تداعيات جائحة كورونا التي كشفت عن انهيار النظام الرأسمالي المتوحش الذي يسحق ملايين الأمريكيين لتحيى القلة القليلة منهم حياة رفاهية وبذخ .
وقد تنتشر عدوى المظاهرات إلى باقي المجتمعات الرأسمالية التي لا يختلف الوضع فيها عن الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تكون تلك العدوى شبيهة بعدوى جائحة كورونا التي لم تغادر أي بلد في العالم إلا غزته بما في ذلك أفقر البلدان . وإذا كانت البطالة قد حركت الشارع الأمريكي ، فإنها ستحرك حتما شوارع بلدان أخرى في العالم لأن، البطون الجائعة لا يمكن أن تلجم أفواه أصحابها . وإذا كانت أنظمة العالم تراهن على قمع التظاهر المطالب بلقمة العيش ، فإنها ستساهم في اتساع رقعة التظاهر الذي سيتحول من الطابع السلمي إلى الطابع العنيف ، وإلى الفوضى والسلب والنهب ،لأن الجياع حين يجوعون لا تضبطهم أية قوة مهما كانت ، ولا يضبطهم سوى توفير الطعام لهم .
وإن فقدان الناس مناصب شغلهم بسبب ما فرضه ظرف الجائحة سيعيد موضوع المسؤولية عن انتشارها إلى المربع الأول كما يقال ، كما سيثير الجدل المتعلق بها والذي يتأرجح بين اعتبارها مؤامرة وبين اعتبارها مجرد كارثة كباقي الكوارث التي تحل بالبشر .
ونختم بالتساؤل التالي : هل ستكشف جائحة كورونا عن طبيعة مشاكل كل بلد في العالم على حدة كما حصل في الولايات المتحدة ؟ وهل ستنجح أنظمة العالم في التغلب على تلك المشاكل بطريقة غير طريقة الرئيس الأمريكي الذي يراهن على الحل الأمني للخروج من ورطة وجد نفسه يواجهها ؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة لا محالة .
وسوم: العدد 880