حزيران اللبناني

يستطيع حزب الله أن يأخذ لبنان إلى حرب مدمرة، ففائض القوة العسكرية وخطاب التعبئة الطائفية وصلا في السادس من حزيران/يونيو 2020 إلى ذروتهما.

شعار «شيعة شيعة»، الذي ووجهت به انتفاضىة 17 تشرين، في أسابيعها الأولى، وبدا يومها مفتعلاً وخارج السياق، اعتادته الآذان الآن، وتحوّل إلى عمل مألوف، يلجأ إليه الحزب وحركة أمل كلما شعرا بأن سلطتهما مهددة.

لكن مظاهرة السادس من حزيران شهدت تحولاً تصعيدياً جديداً، فالدراجات النارية التي اجتاحت منطقة عين الرمانة، وردة الفعل عليها، ترافقت مع هتافات دينية طائفية على مشارف منطقة الطريق الجديدة، حملت معها رائحة حرب أهلية تستيقظ، واضعة لبنان أمام مفترق مأساوي جديد.

ماذا يريدون؟

والضمير هنا يعود على القوى التي أطبقت سيطرتها على السلطة، أي إلى الثلاثي حزب الله، وحركة أمل، والتيار الوطني الحرّ.

من الواضح أن هذه السلطة لا تملك حلاً لمشكلة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يتدحرج إلى الهاوية، ليس هذا فقط، بل هي سلطة غارقة في تناقضات المحاصصة، والإصرار على النهب، ووأد كل محاولة إصلاحية. من فضيحة سلعاتا إلى التعيينات إلى آخره…

أخذوا كل السلطة وغطوا أنفسهم بورقة تين اسمها حكومة التكنوقراط، فلماذا لا يحكمون؟

هذا هو السؤال الذي لا جواب عليه. جاء وباء كورونا وأخرج الناس من الشارع، وأعطى حكومة دياب فترة سماح طويلة، فماذا فعلوا؟

لا شيء سوى الوعود، وكل شيء متعثر، المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تراوح مكانها، والسلطة تتلكأ في تنفيذ وعودها الإصلاحية، والبلاد تنحدر إلى الهاوية.

عشية الدعوة إلى مظاهرة 6 حزيران، كان المسرح قد أٌعدّ، بدقة، شائعات وتخويفاً وتخويناً، وجرت فتنة تمرير شعار تطبيق القرار 1559، الذي يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات ومن ضمنها حزب الله، من قبل مجموعات هامشية، ما دفع الكثير من الأفراد والمجموعات إلى تعليق مشاركتها في المظاهرة. ورغم تأكيد الداعين إلى المظاهرة أن هذا الشعار ليس مطروحاً، فقد استمرت الحملة على المظاهرة واستمر التحريض.

قوى 17 تشرين ليست موحدة، أو ليست متبلورة في تيارات سياسية واضحة، لكن نقطة تقاطعها الرئيسية هي رفض الحرب الأهلية. فالدعوة إلى إسقاط النظام هي في جوهرها دعوة إلى إسقاط نظام الحرب الأهلية، الذي أسس لفيدرالية المافيات الحاكمة.

وكان هناك وعي بضرورة عدم استفزاز حزب الله. ورغم أن الحزب أعلن منذ الأيام الأولى للانتفاضة أنه يحمي هذا النظام، لأنه يريده غطاء لمشروعه الإقليمي، فقد حرصت قوى الانتفاضة كلها على الالتفاف حول هذه النقطة.

وهذا ليس نقصاً في الشجاعة كما يدّعي البعض، بل محاولة لتلافي مستنقع الحرب.

لكن الثلاثي الحاكم، وبعد استيلائه على كل السلطة، وقف عاجزاً ومشلولاً. فالمافيا لا تستطيع بناء دولة، والدولة هي شرط الخروج من الانهيار.

إنهم يحكمون في زمن الانهيار، وهم على استعداد لأخذ الانهيار إلى أماكن جديدة.

صديقهم بشار الأسد فعلها، لكنه كان يدمر بلداً موجوداً، أما هنا فماذا سيدمرون، بعدما وصل الناس إلى حافة المجاعة؟

يذكرنا فائض القوة وحمّى اللغة الدينية الطائفية ببدايات الحرب الأهلية عام 1975. يومها كانت المارونية السياسية تشعر بنقص القوة والمناعة، لكنها وبسبب مركّب الخوف، اندفعت بحزبيها الرئيسيين: الكتائب والأحرار، إلى الحرب الأهلية. وكانت الحرب نهايتها السياسية.

هل نحن أمام وضع مشابه، هل فائض القوة ممزوجاً بالخوف يدفع الشيعية السياسية إلى هذا الخطاب القصووي؟

ألم يتعظوا من تجربة نهاية غيرهم؟ ولماذا إذاً يركضون صوب النهاية؟

أثبتت مظاهرة 6 حزيران أمرين:

الأول هو أن التكرار مستحيل. مشهد 17 تشرين ليس مرشحاً للتكرار، فلبنان مع هذا الانهيار الشامل دخل في مرحلة جديدة، ومواجهتها تحتاج إلى أساليب جديدة.

الثاني هو أن التشرذم لم يعد مسموحاً. الانتفاضة في حاجة إلى منصة موحدة، تستطيع أن تتحمل اتجاهات شتى، لكن عليها الاتفاق على برنامج يضبط معركتها الكبرى ضد نظام الحرب الأهلية.

فالانتفاضة هي مشروع وحدة شعبية في مواجهة نظام العصابات المافيوية الحاكمة، وهي مشروع وطن، وهذا هو معناها الأساسي، وعلى المجموعات المنخرطة فيها أن تعي أن معركتها الكبرى ضد الحرب الأهلية بدأت، وإذا لم تنتصر فيها فهذا يعني ضياع الوطن.

المشكلة التي حاولنا تلافيها فجروها في وجوهنا، والسبب ليس خوفهم من عودة المظاهرات فقط، بل عجزهم عن الحكم أيضاً.

فحين تعجز الطبقات المسيطرة عن الحكم، فإنها تلجأ إلى الحرب.

إنهم في المأزق، وإذا أرادوا السقوط في الهاوية فليذهبوا إليها وحدهم، يجب أن لا نسمح لهم بأخذنا إلى هاويتهم.

لقد انفلقنا من أجندات إقليمية لا علاقة لها بقضايا لبنان أو بقضية فلسطين، هذه المرة لن تنطلي اللعبة.

هذه هي مسؤولية الانتفاضة.

مهمة الانتفاضة الملحة اليوم هي منعهم من جرنا إلى الحرب.

لا بديل عن الانتفاضة سوى انتفاضة في الانتفاضة.

وسوم: العدد 880