تحقيق الأماني في الزَّواج من الغواني ـ الجزء الثَّالث ـ

حدثني ميْسرة بنُ عنترةَ قال:

هذا الحديث الَّذي سأسرده اليوم سمعته في المَضافة، ورأيْت فيه بعض النَّفعِ والفائدةِ واللَّطافةْ، من رجلٍ

نيَّف على الثَّلاثين، وقد ظهرَ بمظهرِ الإنسانِ الرَّزينْ، لِما تبيَّن لي من كلامِهِ الرَّصينْ... قال له

الحاضرون: مُبارَكٌ لكَ انتهاءُ السَّنواتِ العِجافْ، وضمُّكَ بنتَ الحلالِ تحت اللِّحافْ، فلم تعد من شرِّ

العزوبيَّةِ تخافْ، وهنَّؤوهُ بسيْلٍ من الكلماتِ الظِّرافْ. فقال: حقًّا يا جماعةْ، فما بعد حياةِ العزوبيَّة من

بَشاعةْ، يشعر المرءُ فيها أنَّ سنواتِ عمُرهِ مُضاعةْ، وهي تخالفُ الشَّرعَ الَّذي ينبغي علينا اتِّباعَهْ. فسألوهُ

كيف حلَلْتَ تلك العقدةَ العويصةْ؟ وكيف أبصرتَ من النُّورِ بَصيصَهْ؟ فقال: تعلمون أنَّني بقيت أبحث عن

بنت الحلالْ، السَّنواتِ الطِّوالْ. ولمْ أوفَّقْ فيها بإكمالِ الدِّينْ، ولم أظفرْ بفتاةٍ تُخرجني من وضعيَ البائسِ

الحزينْ. كانت والدتي الحنونة، تأخذ معها للخِطبة خالتي مَزيونة، وعمَّتي أمُّونة، وجدَّتي لأمِّي مَيْمونة،

وجدَّتي لأبي مَحسونة، وأخوَاتي ياسَمينْ، وأمَّ أمينْ، وأمَّ ياسينْ، وأمَّ البنينْ، وأمَّ الحسَنْ، وأمَّ الحُسيْنْ...

وكنَّ كلَّما دخلْنَ بيتًا عِبْنَهْ، وبالوساخةِ والقذارةِ وَصفْنَهْ، وبعَدَمِ التَّرتيبِ وَصَمْنهْ. والعجيبُ أنَّهنَّ كلَّما رَأيْن

واحدةْ، كانت الآراءُ بينهنَّ متباعدةْ. فمن قائلةٍ إنَّ البنتَ سمراءْ، ومن قائلةٍ إنَّ البنت بيضاءْ، ومن قائلةٍ

إنَّها قصيرةْ، وما على وجهها من الحسنِ خميرةْ، فتتَّهمُ الأخرى القائلةَ بأنَّها ما لها بصَرٌ ولا بَصيرةْ،

وتُقسِم لي أنَّها طويلةْ، كالغصن في الخميلةْ، وكالوردة الشَّذيَّةِ الجميلةْ. ومن قائلةٍ إنَّ في لسان البنت لثغةْ،

تدمغها في حديثها دَمغةْ. فتردُّ الأخرى إنَّ أجمل ما في هذه البنت كلامَها، وإنَّه هو الذي يُحلِّي حضورَها

ويرفع مقامَها. وهكذا كان ينتهي كلُّ مشوارٍ بالسِّجالْ، وبالمماراةِ والمجادلةِ والنِّزالْ، وبكثرةِ القيلِ والقالْ،

وبابتعادِ الجوابِ عن السُّؤالْ، وكأنَّهنَّ في حربٍ أو قتالْ.

قالتْ لي مرَّةً إحداهنَّ: إذا طلبتَ رأيي: فالبنتُ ليس لها طلَّةٌ عند الدُّخولْ،  تمشي كمشي العجولْ، ولا تتقنُ

الكلامَ المعسولْ، كما عهدناه من  بنات الأصولْ، وتابعتْ تقولْ: أنَّها بنتٌ تنقصها التَّربيةْ؛ لأنَّها لم تسارع

بالتَّلبيةْ، وكان لا بدَّ لها باختصارٍ من التَّنحيةْ... 

ولمْ يدَعنَ طريقة لاختبارِ البنتِ إلَّا جرَّبنها، ولا وسيلةً إلَّا وصَّلْنها. وكأنَّ البنت الَّتي يخطبنها من بنات

الفُجَّار، وليست من بنات المؤمنين الأخيارْ. لمْ يتركن شَعرًا إلَّا من كثرة الشَّدِّ شَعَرنَهْ، ولا حذاءً لها إلَّا

حَذَفنهْ، ولا فمًا إلا شَمَمْنهْ، ولا كُحلًا إلَّا أزلْنهْ، ولا صباغًا إلا مَسَحنَهْ، ولا حاجبًا إلَّا حَجَبنَهْ، ولا ظُفرًا إلَّا

ظفَّرنَهْ، (1) ولا رَمْشًا إلَّا خَدَّشْنَهْ، ولا خدًّا إلَّا خدَّدْنَهْ، وبالقَرَصِ بادَرْنَه، فإذا احمرَّ الخدّ، وصار كالوَردْ،

كان هذا دليلَ السَّعدْ، وأجلبَ للودّ. فالاحمرارُ في الخدِّ صحَّةٌ وعافيةْ، ودورة دمويَّةٌ صافية، ورفاهيةٌ

ليست خافيةْ.

كنَّ يُدخِلْنَ البنت إلى الحمَّامْ، ليتأكَّدْنَ من حسن القوامْ، ومن التَّناغمِ والانسجامْ، وأنَّ كلَّ شيْءٍ

في جسمها على ما يُرامْ،  فعلى بلاط الحمَّامْ، تظهر القرعاءُ من أمِّ الشَّعرْ، كما ورد في الأمثال من قديم

الدَّهرْ.  وكنَّ يَقلْن لي:  نحن أعلمُ بالنّسوانْ، فإنَّهنَّ أمكرُ من الشَّياطينِ والأبالسةِ والجانّ. فكمْ من شرشوحةٍ

سنكوحةْ، ظهرت بمظهر الحسناءِ الممدوحةْ. وكمْ من سمينةٍ مفتولةْ، ظهرت بمظهر النَّحيلةِ المقبولةْ...

فشرَّقنَ وغرَّبنْ، وفي زوايا المدينة نقَّبنْ، لكنَّهنَّ بأخفافِ حنينٍ رجعنْ. حتَّى تعقَّدتْ، وفي أكثرَ من

مرَّةٍ  أظهرتُ لهنَّ أنَّني تُبتْ، وعن فكرة الزَّواجِ أحجمتْ. 

ومرَّت السّنونْ، ولمْ أوَفَّقْ بالجَوْهَرَةِ المَصون، أو ببنتٍ حلوةٍ تسرُّ العيونْ. إلى أنْ أطلَّ  يومٌ من أيَّام

نيْسانْ، هو في فصل الرَّبيعِ نيشان، فقد حضرتُ إلى البيت بعد الظُّهرِ لبعض الشَّانْ، فإذا فتاتانْ، تدخلانِ

بيْتَ الجيرانْ، كانتا بلباس الفتُوَّةِ (2) إلَّا أنَّهما محجَّبتانْ، ومستورتانْ.

وكانت إحداهما تنوف على الأخرى بالطُّولِ قليلا، بينما كانتِ الثَّانيةُ تنوف عليْها بالحسن فتيلا. فدخلتُ

إلى الوالدةِ وأنفاسي تكاد تنثالْ، وكأنَّني لستُ من الرِّجالْ، وطلبتُ منها أن ترتدي المُلاءة في الحالْ،

وقلتُ: دخلت الآنَ إلى بيت الجيران بنتُ الحلالْ. فقالت: أيُّ بنتْ؟ هل أنت خُبلت؟ هل أنت جُنِنتْ؟

أأذهب وَحدي؟ وعمَّاتُك وخالاتُك وأخَواتُكَ لسْن عندي! فقلت: أنا الَّذي سأتزوَّجْ، ولا بدَّ لكِ الآنَ من إيجاد

مَخرجْ، ولن أتردَّدَ ولن أتلجلجْ. فإذا خرجتْ هاتان البنتان، فسأضرب عن جميع النّسوانْ، في كلِّ

الأزمانْ، ولن يكون لي في هذا البيت مكانْ... فأخذتِ التَّهديدَ مأخذَ الجِدّ، وأدركتْ أنَّه لا بدَّ لهذا الأمر من

حَدّ. فلمْ تمانعْ، وأخذت بخطوها إلى بيت الجيران تسارعْ، وبلا سلامٍ  ولا مقدِّماتْ: قالت للجارة أين

البناتْ؟ فأجابت:  أيُّ بنات؟ لم يدخل بيتنا غريباتْ. هذه دُرِّيَّةْ، وأختها مَحظيَّةْ هن الدَّاخلاتْ،

وما زلن للباسِ الفتوَّةِ لابساتْ، ونادتهما فلبَّيْن النِّداءَ في الحالْ، وأحسنَّ السَّلامَ والسُّؤالَ والمقالْ. قالتِ

الأمُّ: واللهِ لكأنَّني أراهما لأوَّلِ مَرَّة، ولوْ جاز في الشَّرع لأخذتُ الأختَ لأختِها ضرَّة... لقد  كانتا تحت

أبصارنا منذ زمَنْ، ولم ننتبه إلى هذا الشَّكلِ الحَسَنْ، ونحن نعاني في هذه الخِطبةِ من المِحنْ، ولم نفكِّر في

يومٍ أن تكون إحداهما لابننا هي العروسْ، الَّتي تسرُّ النُّفوسْ، وتجلو عن الوجه العبوس. فتوَكَّلْنا على

الواحدِ الأحَدْ ، ولمْ نأخذ برأي أحَدْ؛ لأنَّنا اخترنا أجملَ زهرةٍ في البَلَدْ. ثمَّ أنشدْ:

إنَّ اعـتــيـادكَ رؤيــةَ الأشـــيــاءِ      يَـثـنـيـك عن مُـتَعٍ بها وبهـاءِ

كـمْ من جـمالٍ لـمْ نُـنـاغِ فصولَه        لـمَّا نـظـرنـا نِـظرةَ الـبُـلهـاءِ

لا تُـسدِ لـلـمألـوفِ نِـظرةَ عـابـرٍ        وانظرْ إليه كنِـظرة الشُّعراءِ

ولْـتـمـنحِ الـمعـتـادَ نِظْرةَ عاشقٍ        يُهدَى إلـيْهِ الحسنُ كلَّ لـقـاءِ

واحـمَـدْ إلـهَ الكوْنِ كـلَّ صبـيحةٍ      أنْ جــاد بـالآلاءِ والـنَّـعــماءِ

(1) ظفَّرنه: غرسن فيه أظفارهنَّ ليتأكدن أهو طبيعيٌّ أم غير طبيعيٍّ.

(2) لباس الفتوَّة: لباس أشبه ما يكون باللِّباس العسكريِّ يتكوَّن من بنطالٍ وقميصٍ باللَّون (الخاكي) كان

مفروضا لبسه على طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في سوريَّة.

وسوم: العدد 880