هل الحوثي هادوي؟!
لا يزال البعض مصراً على مقاتلة الحوثي بدعوى أنه اثنا عشري رافضي، وهذه الأوصاف لقيت ولا تزال رواجاً كبيراً، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على غياب البوصلة وضعف الإلمام بما عليه الحوثي من فكر، أو أنها دليل مغالطة، وبمجرد التأمل البسيط في أعمال الحوثي سنجد أنه لم يخرج عن فكر الهادوية في الإمامة قيد أنملة، سوى أنه يفضل أن يسميها الولاية بدل الإمامة، ونظرية الإمامة عند الحوثي ومن سبقه أخطر على المجتمع وأشتد فتكاً من النظرية الاثني عشرية أو غيرها من نظريات الفرق الأخرى.
الخروج بين الهادوية والاثني عشرية
يرى الاثنا عشرية الانتظار أملاً في خروج إمامهم المزعوم، وأتت ولاية الفقيه لتسد هذا الباب، وهي ليست محل إجماع عند أغلب علمائهم، ومن يقولون بها وضعوا مجلساً للخبراء يختار الولي الفقيه، حتى لا يحصل وليين في عصر، أما الهادوية فإنها توجب خروج كل من يرى نفسه أهلاً للحكم، داعياً إلى نفسه شاهـراً سيفه، يقول الهادي في جوابه على سؤال من سأل عن إثبات الإمامة: "واعلم هـداك الله أن الإمامة لا تثبت بإجماع الأمة، ولا بعقد برية ولا برواية مروية؛ ولكن تثبت لصاحبها بتثبيت الله لها فيه، وبعقدهـا في رقاب من أوجبها عليه من جميع خلقه وأهـل دينه وحقه"(1)، ويقول عبد الله بن حمزة: "وأما بعد الصدر الأول فاعلم أنا رأينا أن طريق الإمامة بعد الأئمة الثلاثة ... هـي الدعوة والخروج"(2).
ولا ترى الهادوية بإن الخروج حق، بل تراه واجباً على كل من يرى نفسه أهـلاً، وفي ذلك يقول الهادي: "فمن قصر عن ذلك ولم ينصب نفسه لله، ويشهـر سيفه له، ويباين الظالمين ويباينوه، ويبين أمره ويرفع رايته؛ ليكمل الحجة لربه على جميع بريته، بما يظهـر لهم من حسن سيرته، وظاهـر ما يبدو لهم من سريرته فتجب طاعته على الأمة والمهـاجرة إليه، والمصابرة معه ولديه، فمن فعل ذلك من الأمة معه من بعد أن قد أبان لهم صاحبه نفسه، وقصد ربه وشهـر سيفه، وكشف بالمباينة للظالمين رأسه، فقد أدى إلى الله فرضه، ومن قصر في ذلك كانت الحجة لله عليه ساطعة، منيرة بينة قاطعة"(3).
فالهادوية إذاً توجب على كل من يرى نفسه أهلاً للحكم أن يخرج، وهذه هي طريقة التنصيب لا سواها عندهم، وما فعله الحوثي هو تطبيق حرفي لرأي الهادي في الحكم، وقد استنزفت هذه الظاهرة المجتمع اليمني كثيراً، فكثير منهم يرى نفسه أهـلاً، ويجيش المجتمع معه لقتال مخالفيه، من ذلك ما حدث في عصر يحيى بن حمزة (ت: 749هـ)، إذ عارضه ثلاثة أئمة آخرون، هـم علي بن صلاح بن تاج الدين (ت:730هـ)، والمطهـر بن محمد بن المطهـر بن يحيى (ت: 765هـ)، وأحمد بن علي الفتحي (ت:750هـ) (4) ، وقد "اضطر المهـدي أحمد بن يحيى المرتضى في النهـاية للتخلي عن إمامته؛ لأن منافسه المنصور علي بن محمد صلاح الدين كان أقوى منه"(5)، وقد عارض المختار بن الناصر(ت:345هـ) عمه الحسن بن الهادي (ت:329هـ)(6)، وتقاتل المنصور يحيى بن الناصر بن الهادي (ت:367هـ) مع إخوته، وتقاتل يوسف بن المنصور يحيى بن الناصر (ت:403هـ) مع القاسم بن علي العياني (ت:393هـ)، ودخل الناصر محمد عز الدين بن عبد الله بن حمزة (ت:626هـ) في صراع مع المعتضد يحيى بن محسن (ت:636هـ)، وقتل الحمزات المهدي أحمد بن الحسين (ت:656هـ)، وعارض المطهر بن شرف الدين (ت:980هـ) والده وتمرد عليه وعرف بالوحشية(7).
هذه الصراعات والحروب يعترف بها أئمة الزيدية أنفسهم ومؤرخيهم، سواء تلك التي بينهم، أو الحروب التي يشنونها على الدول والقبائل الأخرى في اليمن، وكان كل واحد منهم يرى نفسه أهـلاً وقوله نافذاً، ويفتي بقتل الآخرين، ومن الملاحظ أن كل ذلك القتل والدمار والحرب جرى تحت شعار الجهـاد في سبيل الله والتمكين لدينه، كما يدعي الحوثي اليوم.
قد يدعي الإمامة من هب ومن دب منهم، يذكر الشوكاني (ت: 1250هـ) في كتابه "البدر الطالع" أنه بعد وفاة المؤيد بالله محمد بن القاسم (ت:1054هـ) ادعى الإمامة اثنان من إخوانه، المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (ت: 1087هـ) وأخيه المنصور أحمد بن القاسم (ت: 1076هـ ) وكان الأخير قد بدأ الدعوة لنفسه بعد وفاة أخيه لأنه عنده في مدينة (شهـارة) وشجعه على ذلك بعض ممن كان حول أخيه، وتأخرت دعوة المتوكل لأنه كان عند موت أخيه في مدينة (ضوران) وبين المدينتين مسافة، ولم يتنازل أي منهما للآخر، وأعد كل منهما عدته، ووقعت المواجهـات بينهما حتى قُبض على أحمد وأتي به إلى أخيه(8)، فتاريخ الأئمة كله بهذا الشكل، وأغلب مخالفي الحوثي ممن لا زالوا على نفس فكره مثل الخلافات السابقة.
هذه الصراعات التي ظهـرت حول الإمامة، تعود إلى ادعاء بعضهـم أنه الأحق بالإمامة من غيره، حيث كان بعض أبناء الحسن بن علي يدعون أنها محصورة فيهم، دون بني عمهـم الحسين، ويرى آخرون أنها محصورة في أولاد أحمد بن عيسى بن زيد (ت:247هـ) خاصة، وظهـرت مزايدات بين الأئمة من أبناء الهادي والأئمة من سائر الفاطميين، فادعى بعضهـم أن أبناء الهادي أحق بها من غيرهم، في إطار التنافس وطلب المزيد من المزيات(9)، وهـكذا كانت فترة حكم الهادوية في أغلبها غير مستقرة، ولقد سعى أبناء عدد من الأئمة إلى تأسيس ولايات حكم خاصة بهم، ورفضوا دعوة الأئمة الباقين، وكان يحصل التمايز في كثير من الأحيان بين الأسر الكبيرة، كأسرة الهادي والحمزات وغيرهم.
وحالات المعارضة بين الأئمة في اليمن في تاريخ حكمهم منذ دخول الهادي إلى تاريخ نهاية حكمهم لليمن لا تخفى على كل متتبع لسيرتهم، فإذا كان أساس الإمامة هو وجوب الخروج من كل من يرى نفسه أهلاً، فلا شك أنه في هذه الحالة لن تجد من يعزف عن الخروج من الأسر الحاكمة إلا من زهد عن المنصب أو ضعفت مقومات القوة التي تمكنه من بسط سيطرته، وكان التعارض ظاهـرة في تاريخ الهادوية، وكانت المعارضات لأسباب مختلفة منها الخلافات داخل البيت العلوي، والأوضاع الاقتصادية السيئة، واختلاف الأئمة في الجبايات وطرق توزيعهـا، والتعصب المذهـبي والاجتهـادات المختلفة داخل الهادوية، والتمرد على سلطة الإمام(10).
العلاقة بين الحوثي والهادوية
يرى بعض الباحثين أن الحوثية غير الهادوية، وما هـي إلا امتداد للاثني عشرية؛ لكن أغلب الباحثين المعاصرين لا يراهـا إلا نموذجاً عملياً لفكرة الإمامة الهادوية، وهـي حركة إحياء لفكرة الهادي بكل تفريعاتهـا، ويؤيد هـذا الرأي تأكيد بدر الدين الحوثي (ت:1431هـ) بنفسه وفي أكثر من مناسبة على تمسكهـم بالمذهـب الزيدي، ويعزوا رد علماء الهادوية على ابنه وتبرأهـم منه، إنما كان في فترة قوة الدولة ولخوفهـم من بطشهـا(11)، ويعتبر بدر الدين الحوثي مرجعاً من مراجع المذهـب المعتبرين، وهـو صاحب الكتب العديدة في مدح المذهـب، ومنها "إرشاد الطالب إلى أحسن المذاهـب".
توقيع عدد من علماء الهادوية للوثيقة الثقافية والفكرية، قطع ما كان يتردد عن انفصال الحركة الحوثية عن الهادوية، وقد اشتملت هذه الوثيقة على أغلب عقيدة الهادوية، وخاصة في مسألة الإمامة، وهـي وثيقة جامعة لعدد من علماء المذهـب الزيدي وعلى رأسهم عبد الملك الحوثي، وتعتبر مرجعاً جامعاً لأفكارهم، ومنطلقاً مهماً لأدائهم وممارساتهم، وقولاً فصلاً لحل خلافاتهم، وتنص هذه الوثيقة على مسألة الإمامة كما جاءت في كتب الهادوية، حيث يقولون: "وأن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو أخوه ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين، ثم الأئمة من أولادهـما كالإمام زيد (ت:122هــ)، والإمام القاسم بن إبراهـيم (ت:246هــ)، والإمام الهادي(ت:298هــ)، ... ومن نهـج نهجهم من الأئمة الهادين"(12).
لقد كان الخلاف بين الحوثيين والهادوية في صنعاء في فترة المواجهة العسكرية بين الحوثيين والدولة، أما وقد استقر الأمر فقد انضم كبار علماء الهادوية للحركة علناً، وشاركوا في حكومتها، وأصدروا بياناً يعترفون فيه بحسين الحوثي (ت:1425هـ) كعالم مجتهـد له رأيه حيث قالوا: "فإن العلماء يؤكدون على أن المذهـب الزيدي مبني على الاجتهـاد والتأمل والنظر والبحث، وإن كان حسين بدر الدين الحوثي قد خالف بعض مسائل المذهـب فهـذا شأن العلماء، فلهم آراء وأقوال تخالف آراء وأقوال البعض الآخر منهم، لا يُخطئ أحد منهم الآخر أو يخرجه عن دين وملة، ومع ذلك فإن معالجة هـذا هـو المناظرة والحوار بين العلماء أنفسهم"(13).
تأسيس الحوثيين لعدد من المؤسسات الجديدة التي تحمل اسم الهادوية، وإحياء تراثهـم من خلال المناهـج التعليمية والقنوات التلفزيونية والجامعات والمساجد، وعلى كافة الأصعدة قطع ما كان يروج قديماً عن انفصال هذه الجماعة عن المذهب الهادوي، وأصبحوا جميعاً تحت مظلة جامعة وأهداف واحدة.
والسبب في تحذير الهادوية من الحوثيين في بداية الأمر، ربما يعود لأحد هذه الأسباب أو لها جميعاً:
1. أنهم رأوا في الحوثية حركة مستعجلة، خصوصاً وهـي عبارة عن مجموعة من الشباب، ربما استعجلوا الأمر، فلربما أن حالة الاستعجال التي كان يقوم بها الحوثي كانت مدعاة للحذر والتحذير منه من قبل علماء الهادوية أنفسهم؛ لكن الواقع أن ما قام به الحوثي يعتبر إفرازاً طبيعياً لذلك الفكر، وحسين الحوثي ومن بعده عبد الملك كل منهم يرى نفسه أهلاً.
2. أن الإمامة عند الهادوية ذات بعدين، بعد ديني وآخر سياسي، والإمام لا بد وأن يتصف بالصفتين، وحسين الحوثي ليس في نظر بعضهـم سوى شاب يزاحم كبار أئمة المذهـب في الإمامة، فلم يكن مؤهـلاً علمياً ولا عمرياً ليتولى هـذا الأمر، مع وجود مرجعية دينية معترف بها وهـو مجد الدين المؤيدي حينها، وبهذا يكون ما حصل من خلاف في بداية الأمر بين بعض الهادوية والحوثيين، ليس إلا خلاف في وجهـات النظر حول المؤهـل للإمامة والأحق بها، وهذا الخلاف ليس وليد اللحظة في تاريخ الإمامة في اليمن كما سبق معنا.
3. لخوفهـم من بطش الحكومة حينهـا لكونهم واقعون تحت سيطرتهـا، يؤكد هـذا أن عدداً ممن تبرأ من بدر الدين الحوثي (ت:1431هـ) وأبنائه، كان في أوائل المرحبين به، ولقد سُئل المرتضى المحطوري (ت:1435هـ) عن بدر الدين الحوثي فقال: "بدر الدين قعد في إيران، وحاولوا أن يجعفروه بكل ما أوتوا من قوة، والرجل زيدي من رأسه إلى قدمه"(14).
والواقع أن مثل هذه الآراء المحذرة من الحوثي، كانت في البدايات الأولى لتحركه العسكري، أما الآن فإنه لا فرق يذكر بين الحوثي وغيره من الهادوية، وقد يبتعد الحوثيون عن اسم الإمامة لتشوه صورتها لدى المجتمع؛ لكنهم يمارسون كل أشكالها ومضامينها باسم الولاية وحق أهل البيت، وبهذا فإن أكبر مرجع يعتمد عليه الحوثي في خروجه وقتله وتفجيره بعد هاشميته هو مذهبه، يقول علي بن عبيد الله العباسي العلوي كاتب سيرة الهادي وهو يحكي طريقة تعامل الهادي "ومضى العسكر كله حتى نزلوا قرية أملح، ونهبوا ما وجدوا فيها، وأقاموا أياما يخربون المنازل والآبار، ويقطعون النخيل والأعناب"(15)، فطريقة الخروج والنهب والتدمير لم يبتدعها الحوثي فهي موجودة في كتبهم، وعلى لسان أئمتهم، والحل ربما يكمن في مراجعة تلك النصوص التي اتكأ عليها الحوثي ومن سبقه، وخاصة ممن ينتسبون للهادوية فهذا ميدانهم الأول.
-المصادر-
1. يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، مجموع كتب ورسائل الهادي، ص490
2. عبد الله بن حمزة، الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة، ص337.
3. يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، الأحكام في الحلال والحرام، ص33.
4. إسماعيل بن علي الأكوع، الزيدية، ص81.
5. برنارد هيكل، الإصلاح الديني في الإسلام تراث محمد الشوكاني، ص28
6. محمد عزان، قرشية الخلافة، ص135.
7. عبد الفتاح البتول، عصر الإمامة الزيدية في اليمن، ص500.
8. محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع في محاسن من بعد القرن التاسع، ص148.
9. محمد عزان، قرشية الخلافة، ص131.
10. محمود محمد الجبارات، الإسلام السياسي والتعددية السياسية الزيدية في اليمن أنموذجا، ص413.
11. مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث، الحوثية في اليمن الأطماع المذهـبية في ظل التحولات الدولية، ص 116.
12. أحمد محمد الدغشي، الحوثيون ومستقبلهم العسكري والسياسي والتربوي، ص106.
13. مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث، مرجع سابق، ص121.
14. مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث، مرجع سابق، ص 119.
15. علي بن محمد عبيد الله العباسي، سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، ص250.
وسوم: العدد 882