مقابر فلسطين التي تقاوم
كثيرة هي المعارك المنتظمة التي يخوضها الفلسطينيون ضد دولة الاحتلال الإسرائيلية، في سياق الدفاع عن الوجود والهوية والإرث الوطني والمقدسات، وثمة عدد غير قليل منها لا تُسلّط عليه أضواء كافية؛ إمّا بسبب طبيعته المختلفة تارة، أو لأنّ احتشاد المعارك يُبعد بعضها إلى مساحة خلفية تارة أخرى. والكفاح من أجل الحفاظ على مقبرة الإسعاف، في مدينة يافا، مثال على هذا الطراز من مقاومة الاحتلال؛ إذْ نجحت الاحتجاجات واللجوء إلى القضاء في دفع بلدية تل أبيب ـ يافا إلى وقف أعمال التجريف في المقبرة، بصفة مؤقتة بالطبع لأنّ القضاء الإسرائيلي لم يعوّد الفلسطينيين على الحدود الدنيا من إحقاق القانون.
ومنذ أن بسط الاحتلال سلطته على ممتلكات المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، سنة 1952؛ وجرى بالتالي وضع الحراسة على جزء كبير من العقارات والمساجد والمقابر تحت تصنيف «أملاك الغائبين»؛ يخوض الفلسطينيون صراعاً مريراً لتثبيت الهوية الوطنية لتلك الأملاك، ولمنع تجريفها أو بيعها إلى شركات الاستثمار العقاري والسياحي الإسرائيلية. وعلى صعيد المقابر وحدها، ثمة في يافا مقبرة القشلة التي ترتبط بمقبرة البرّية التاريخية وتعود إلى الحقبة المملوكية، وسبق للاحتلال أن صادر مساحات منها وجرّف عشرات القبور؛ وهذه، أيضاً، حال مقبرة طاسو التي باعتها سلطات الاحتلال بموجب عقود تبيّن أنها باطلة أو مزوّرة؛ ومقبرة الجماسين، التي جُرّفت لتوسيع حيّ يهودي؛ ومقبرة الشيخ مؤنس، التي شيدت بلدية تل أبيب مسكناً جامعياً على أنقاضها.
غنيّ عن القول إنّ تجريف مقبرة فلسطينية، أو نبش قبر شهيد، أو زرع متحف «تسامح» على أنقاض مزار أو ضريح؛ لن يفلح البتة في تغييب هذا الظلّ الفلسطيني الطويل المقيم، المنزرع بعمق في أرضه، ضارب الجذور في الماضي والحاضر والمستقبل
وأمّا في مدينة القدس، على سبيل المثال الثاني، فإنّ مقبرة مأمن الله تخضع، منذ عام النكبة وحتى اليوم، إلى عمليات تجريف وتدنيس وإقامة مشاريع سياحية واحتفالات دينية يهودية؛ فضلاً عن مشروع ضخم لإطلاق «متحف التسامح»، على مساحة 25 دونماً من أرضها. وهذه ليست مقبرة عادية، كما هو معروف، إذْ تجاور باب الخليل، وتعود إلى بدايات الفتح الإسلامي للمدينة في سنة 636 م، وتضمّ العديد من الأضرحة ورفات الصحابة وأشراف المسلمين. وكانت عمليات الاعتداء عليها قد وُضعت، مراراً وتكراراً، أمام مجلس الأمن الدولي؛ الذي وقف أعضاؤه، كالعادة، مكتوفي الأيدي إزاء الانتهاكات الفاضحة.
وهنالك واحدة من «الوقائع العجيبة» التي يحار في تفسيرها سعيد أبو النحس المتشائل، بطل رواية إميل حبيبي الشهيرة: كيف اختفى وطنه من الخريطة، ولكنه هو نفسه لم يختف وبقي فيه مقيماً وعلى قيد الحياة؟ ولكن، تقول الرواية على أكثر من مستوى مجازي بارع: كيف له أن يختفي أصلاً، هو المتورّط حتى أذنيه في شبكة معقدة من الوقائع الغريبة العجيبة، ذات الصلة بأهله وناسه ووطنه؟ وكيف، وهذه الغرائب العجائب تعود إلى تواريخ سحيقة وأخرى معاصرة، وتنتمي إلى أزمنة متداخلة، ليس في الماضي والحاضر فحسب؛ بل كذلك في المستقبل، وفي المتخيَّل، كما في الزمن الذي سوف يمرّ ذات يوم؟ وأخيراً (ولكن ليس آخراً عند حبيبي): كيف سيختفي، وهذا التورّط لا يقتصر على حكايات الأرض والبشر، بل يمتدّ إلى أسرار ما تحت الأرض، وما اندثر من جبال ووديان وقرى ومقابر ومعالم، سواء بفعل البلدوزرات الإسرائيلية والكيبوتزات، أو بفعل القوى الخفية الغامضة التي تتناهب هواجس المتشائل؟
غير أنّ الرسالة العليا في رواية حبيبي قد تكون هذه بالضبط: أنّ فلسطين الوطن، أو بعض أجزائها ربما، قد اختفت من الخريطة والطبوغرافيا؛ ولكنها بقيت حيّة وحيوية في كلّ موقع آخر… خارج الخريطة! وأمّا هوية أبنائها، المتعددة المتراكمة على امتداد تاريخ حافل غاصّ بالعهود والأحقاب والأديان والحضارات، فإنها ليست بحاجة إلى إحياء أرشيفي أو برهنة حقوقية، فهي ماثلة في هذا المشهد الزاخر بالتواريخ والوقائع والرموز والأساطير والسرديات. وفي الرواية يكتشف أبو النحس طبيعة معادلته مع الحاكم العسكري الإسرائيلي، في أكثر من مناسبة واحدة؛ هي، عنده، «ظواهر خارقة». على سبيل المثال، عندما يزور الحاكم العسكري، يقول: «فلما نزلت عن الحمار رأيتني أطول من الحاكم العسكري، فاطمأنت نفسي حين وجدتني أطول منه بدون قوائم الحمار». وعندما يروي حكاية المرأة الفلسطينية المهجّرة من قرية «البروة» مع طفلها، يقول: «فلما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم العسكري على الأرض وأنا في [سيّارة] الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. فظلّ الحاكم العسكري واقفاً ينتظر اختفاءهما، وظللت قاعداً أنكش، حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان؟».
وغنيّ عن القول إنّ تجريف مقبرة فلسطينية، أو نبش قبر شهيد، أو زرع متحف «تسامح» على أنقاض مزار أو ضريح؛ لن يفلح البتة في تغييب هذا الظلّ الفلسطيني الطويل المقيم، المنزرع بعمق في أرضه، ضارب الجذور في الماضي والحاضر والمستقبل. وفي سنة 2011 كان 84 من أبرز الآثاريين في العالم قد تقدموا بعريضة إلى مركز سيمون فيسنتال (الشريك في مشروع «متحف التسامح»)، وإلى بلدية القدس وسلطات الآثار الإسرائيلية، للاعتراض على إقامة المتحف لأنه يناقض كلّ أخلاقيات علم الآثار؛ دون جدوى، بالطبع، لأنّ المحكمة العليا الإسرائيلية أجازت البناء.
كما سوف تفعل دائماً، لا ريب؛ وكما لن تفلح في ثني المقابر عن البقاء، والمقاومة.
وسوم: العدد 882