الفرعونية .. والخلافة
الفرعونية منهج حكم وطريقة حياة .. من سلكه فإنه يصل إلى طريق الطغيان والاستبداد ، وعلى قدر ما تلبس من صفاتها يكون درجته في الطغيان والاستبداد .. وقد تتلبس الفرعونية بالحاكم ، كما أنها قد تتلبس بمن هو دونه طالما كان على ثغر سلطة ، وكان تحت مظلته اتباع يتبعونه جبرا أو اختيارا
الفرعونية رسم صورتها ، ووضع معالمها فرعون مصر الذي أرسل له الله نبيه موسى عليه السلام ، ثم اقتفى آثارها من جاء بعده ، وربما اقتفى اثرها من كان قبله رغم تقدمهم في الزمن ، إلا ان التاريخ توقف عند فرعون موسى وأصبح رمزا لظاهرة الاستبداد والطغيان
والخلافة الراشدة منهج حكم وطريقة حياة ، من سلك طريقها فقد سلك طريق الحق والعدل ، وقد رسم معالمها بشر تلبسوا بشريعة سماوية ، على يد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام .. تلبسوا بها واندمجوا فيها الى حد التماهي ، ورسموا صورة سامية في واقع كان لا يزال حديث عهد بجاهلية ، وصنعوا نموذجا للحكم لم يتكرر عبر التاريخ ، ذلك النموذج الذي تواترت رؤى الفلاسفة على الحلم به عبر مدائنهم الفاضلة ، حتى أن حلمهم ذلك لم يرتقي إلى ذلك النموذج الواقعي للخلافة
البون واسع بين الفرعونية ، والخلافة الراشدة ، فالأولى طريق الطغيان " اذهب إلى فرعون إنه طغى " .. والثانية طريق العدل ، وطريق السمو والعلو الى الحد الاقصى الذي تسمح به الطبيعة الانسانية " اتبعوا سنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي عضوا عليه بالنواجذ "
الهدف من تناول هذه الأضداد ليس من قبيل ذكر نقائص هذه ، أو فضائل تلك ، ولكن الهدف هو بث نفحات من وعي ، وزخات من ذِكْر "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " .. وحتى يعرف الحاكم إلى أي الطريقين ؟! .. ينتمي والى اين المصير ؟! .. وحتى يدرك المحكوم الى أي بشر يتبع ، ويسأل نفسه ويجيب أيعبد طاغوتا ، ويقتفي مستبدا بشرا لا يستطيع أن يسترد ما يأخذه الذباب منه ، أم يتبع الحق ويعبد الله وحده الحاكم الأوحد
نتعرض هنا لبعض صفات الفرعونية وما يقابلها في الخلافة الراشدة
· الفرعونية .. وامتلاك الحقيقة المطلقة " ما اريكم الا ما ارى "
أول ما يقابلنا من صفات الفرعونية الصارخة هو ادعاء الفرعون أنه يملك الحقيقة وحده ، فرأيه هو ما يجب أن يُتبع ، وهداه هو الهدى ، وعلى اتباعه المحكومين " عبيد الاحسان " أن يتبعوا هديه دون أن يعترضوا أو يكون لهم رأي
فكل حاكم يعتقد هذا الاعتقاد الكاذب ، وهو ادعاء العصمة ، والزعم بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة ، وأن رأيه هو الصواب وما عداه هو الخطأ ، والذي يدعي سبيل الرشاد وهو ابعد الناس عنه ، هذا الحاكم ربما يصدق نفسه ويصدقه اتباعه ، يصدق نفسه لأنه يخاطب الناس من منبر مرتفع صنعه له هامانات الزيف ، واوهموه بأنه صاحب البصيرة الاوحد ، ثم جاء السحرة ونفخوا فيه حتى آمن بهذا الوهم
وربما ادعى أحد الفراعين أنه يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا ، وهو يرفع راية الطغيان والاستبداد ، ويسل سيف جبروته على المظلومين ، يستحل دماءهم ، ويستبيح أعراضهم وأموالهم ، ويستخدم سطوته على المستضعفين ، ثم يظن بعد ذلك أن ذلك من لوازم الحكم ، وربما افتى له شيوخ سلطانه أنه على الحق ، وهو بعيد عنه وعن الله بعد فرعون الطاغوت عن موسى النبي عليه السلام
· الخلافة الراشدة .. " إنما أنا بشر مثلكم "
جاء في خطبة الخليفة الاول ابي بكر الصديق " وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسات فقوموني " .. هذه هي كلمات أول خليفة وهو يضع دستور الحكم في الاسلام .. أقر أمام الناس انه ليس بخيرهم ، واقر بأنه لا يمتلك الحقيقة المطلقة ، واقر بأنه بشر يصيب ويخطئ
لم تكن هذه خطبة حماسية ولا دعاية في برنامج انتخابي ، ولكنه كان واقعا ومنهج حكم ، فقد رأينا معارضة الصحابة للخليفة الأول في حروب الردة وفي بعث جيش اسامة وفي غيرها .. وقد رأينا الخليفة الثاني عمر ينادي من على المنبر أصابت امرأة وأخطأ عمر بعدما قامت امرأة وراجعته في قضية المهور .. ورأينا محكوما يقول لأمير المؤمنين عمر اتق الله يا أمير المؤمنين فو الله ما الأمر كما فلت ، فينهاه من بجواره ، فيقول عمر : دعوه " فلا خير فيكم إن لم تقولوها ، ولا خير فينا ان لم نسمعها" ، ثم أننا لم نر هذا المحكوم في غيابات السجون ، او نراه مطروحا أرضا تنهش منه الجنود المسعورة
· الفرعونية .. والكبر " واستكبر هو وجنوده "
الكبر أن يضع الحاكم نفسه فوق البشر ، ويراهم عبيد احسانه ، وأن يُلبس نفسه ثوبا لا يكون لمثله ولن يكون ، ثوبا لا يليق إلا برب البشر ، فكما جاء في الحديث القدسي " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قصمته "
والكبر بطر الحق وغمط الناس ، وهو آفة الحكم على مر الازمان ، وهو الطريق الى الاستبداد ة والطغيان ، فما من متكبر ظالم إلا وهو طاغية ، وما من مستبد إلا وهو متكبر ظالم ، وعلى قدر ظلمه وطغيانه يكون ظلم جنوده ، فإنهم يده التي يبطش بها
· الخلافة الراشدة .. والتواضع
لم يكن التواضع في سيرة الخلافة الراشدة شعار زائف يرفعه الخليفة ليرائي به ، ولم يكن جملة عابرة في خطبة ، وما كانت موقفا تمثيليا يصنعه الحاكم لنفسه ، او يصنعه له من حوله من الحمقى كي يبثه على الاعلام ليخدع به شعبا غاب عن الوعي أو غُيب عنه قسرا ، ولكنه كان صفة ملازمة ، وخلة صادقة اكتسبها الخلفاء من شريعة الاسلام التي جاءت لمحاربة الكبر و المتكبرين ، وساوت بين الحاكم والمحكوم في الدرجة
كان التواضع سجية ملازمة للخلفاء لانهم كانوا اصحاب نفوس عالية ، وكان الواقع يترجمه دون تكلف .. وهذا الخليفة الاول ابو بكر الصديق رضي الله عنه كان قبل تولى الخلافة يحلب للحي شياههم فلما تولى الخلافة قالوا لن يأتي ولكنه أتى وحلب لهم ، وهذا الخليفة الثاني عمر رضي الله يدخل القدس فاتحا .. وهذا الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه يقيل في المسجد وهو خليفة ، ويقوم وأثر الحصى في جنبه .. وهذا الخليفة الرابع علي رضي الله عنه يشتري لحما ويحمله فقيل له : نحمل عنك يا أمير المؤمنين فيقول : لا ، ابو العيال أحق أن يحمل
تلك المواقف كانت واقعا ، وكانت حقيقية زلزلت صفحات التاريخ فلم يعرف لها نظيرا ، لا قبلهم ولا بعدهم ، لذلك استحق الخلفاء أن تلحق سنتهم في الهدي بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ "
وسوم: العدد 883