البِنَاءُ الثَقَافِيُّ الرَاشِدُ
إنَّ حالةَ النقصِ المَعْرفيِّ وَالاضْطِرابِ في بِنَاءِ ثَقافَةِ الأجيَّالِ اليَوْمَ.. لَهي بِفَهمي مِنْ أخطَرِ مَصَادرِ اختِلَالِ المَفَاهيمِ وَالرُؤى في سِلُوكياتِهمِ.. ربَّما هُنَاك من يقولُ: أنَّ هَذه المُقَدمَة تَفْترضُ أنَّ الثَقافَةَ البَشريَّةَ واحدةٌ.. فَهْل هَذا صَحيحٌ..؟ منْ وجهَةِ نَظَري فَإنَّ الثقافَةَ نُوعان: الأولى مَمْنُوحةٌ :وهي ثَقافةٌ فِطْريِّةٌ خَلْقيَّةُ منَحَها رَبُّ النَّاس للنَّاسِ.. فَأودَعَها سُبْحَانَهُ في وجدانِهم لِتَكونَ أسَاساً لِطبيعةِ سلُوكياتِهم وأدَائِهم في الحَيَاةِ.. وقَوامُ هَذه الثَقافَةِ :أنَّ الجِنَّ والإنْسَّ وباقي الأحيَاءِ والأشيَاءِ.. هُم في عِبَادةٍ دَائمةٍ لِخَالقِهم سُبْحانَهُ, وذلك لِقولِه تَعالى: "ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ "ولِقولِه جَلَّ شَأنُه: "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ". والنوع الثاني: ثَقافَةٌ مُكْتَسَبَةٌ يَجْنِيها الإنْسِانُ مِنْ فَعاليَّاتِ سيره وكَدْحِه وَتَعامُلِه معَ تَحدِياتِ ومُسْتَجداتِ الحياة.. والنَّاسُ بشأنِ هَذه الثَقافَةِ لَيْسوا سَواءً.. فَثَقافاتُهم مُتَعدِدةٌ وَمُتنوعِةٌ وذلك حَسَب قُدْراتِهم وَكفَاءَاتِهم وَمَهاراتِهم وَطبيعةِ بيئتِهم(اجتماعيَّاً وجغْرَافيَّاً) .وبَعْدُ.. وعلَى أساسٍ مِمَّا تَقدَم من بيانِ: فإنَّ ثقافَةَ النَّاسِ تَتكونُ مِنْ ثَقَافتين مُتَكَاملتين مُتَلازمتين: ثَقافَةٌ فِطْريَّةٌ مَوهوبَةٌ ممنوحةٌ من رَبِّهم وخَالقِهم سُبْحَانَهُ وهي: رُوحيَّةٌ أخلاقيَّةٌ سُلوكيَّةٌ، وثَقافَةٌ مُكتَسبَةٌ وهي: مَاديَّةٌ وَ وسائلية أدائيَّةٌ إبداعيَّةٌ عَمَليَّةٌ تَطْبيقيَّةٌ.. وهُما ثَقافَتان تَحكُمان سُلوكيَّاتِ سَيْرِ الإنْسَانِ في مِيَادينِ تَحديَّاتِ إقَامَةِ الحَيَاةِ وَعَمَارَةِ الأرضِ واسْتِثمَاِر مَكْنونَاتِ الكونِ .وأحسب أنَّ الخللَ القائمَ اليَوْمَ في بُنْيَةِ الثَقافَةِ البَشريَّةِ.. إنمَّا مَردُه إلى نقصٍ مَعْرفيٍّ واضْطِرابٍ فكريٍّ .. يَعْتري أصلَ بُنْيَةِ البناءِ الثَقافيِّ والتَرْبويِّ للأجيَالِ.. وهو النقص المُتَمثلُ بغيابِ التَكَاُملِ والتَلَازُمِ بَيْنَ الثَقافَة الرُوحيَّةِ والأخلاقيَّةِ والسلُوكيَّةِ.. وبين الثقافة المَاديَّةِ والسائليَّةِ والكفائيَّةِ والأدائيَّةِ والإبداعيَّةِ في مَيادينِ الحَيَاةِ.. أجل فَالصَلاحُ وَالفَلاحُ والرُشْدُ يَكونُ مع: التَكَاُملِ والتَلَازُمِ بَيْنَ مَحَاريبِ العبَادةِ الرُوحيَّةِ, ومَحَاريبِ العِبَادةِ العُمْرَانيَّةِ. واللهُ سُبْحَانَهُ المُسْتَعانُ.
وسوم: العدد 883