خذوهم صغارا تغلبوا الجيران والبلدان إنْ جارا
عند منعطفات حياتية يُعرف المرء بنمط التربية التي نشأ عليها، وليس هناك كبير علاقة بين التربية والشأنية العلمية والثقافية، فلا تعني الرتب العلمية وما يحمله المرء من ثقافة عامة دلالة على التربية، إنما هي مؤشر وليست لازمة ضرورية، فقد يواجه المرء انسانا على مستوى من العلم الجامعي والثقافة العامة ولكنه يكتشف من خلال التعامل والسلوك اليومي نقصا في التربية وتشوها في السلوك، ولسان المرء كاشف عن تربيته كما هي جوارحه.
فعدد غير قليل من الآباء والأمهات لا يحسنون القراءة، أو الكتابة أو ربما يحسنون فك الخط فقط، ولكنهم على قدر عال من التربية والسلوك السوي، وينعكس هذا النهج القويم على تربية الأبناء، ونجد في المقابل من هو على قدر عال من العلمية والشأنية الثقافية ولكنه يفتقد إلى التربية السوية، ولك أن تتصور انعكاس هذا الأمر على تربية الأبناء، فالتربية غير التعليم وهي غير الثقافة، بل في حقيقة الأمر ينبغي أن ينعكس التعليم والثقافة على السلوك بصورة إيجابية، لأن العلم مدعاة لنشر الفضيلة ولهذا دخلت المدارس تحت عنوان وزارة التربية والتعليم، فالتربية قرين التعليم وهو توأم التربية، والثقافة في عنوانها العريض دالة على نمط السلوك والتعامل اليومي، فالتربية هي جزء من الثقافة إن لم تكن في صلبها، فزيادة العلم والمعرفة خالية من التربية والسلوك القويم ليست هي الثقافة التي يفترض أن تسود المجتمع ويحمل أصحابها تيجانها.
في سالف الأيام عندما أخذت أقدامنا طريقها إلى اللعب في أزقة مدينة كربلاء المقدسة ولما نبلغ الحلم، كانت الفقيدة والدتي، وهي لا تجيد القراءة والكتابة، وفي حر الصيف الحرور تتخذ بعد الظهر مجلسها عند عتبة الدار تفترش زربيتها ووسادتها، في حين كان الوالد والإخوان والأخوات يفترشون الطابق الأرضي (السرداب) حيث البرودة أو تحت هواء المروحة لقضاء فترة القيلولة بعد وجبة الغذاء، بالطبع كانت الوالدة تفعل ذلك لتمنعني من الخروج إلى الزقاق واللعب مع أترابي من الأولاد، فلا يمكن فتح الباب خلسة إلا من خلال المرور على الوالدة، وحيث يصعب المرور من نقطة الحراسة فأظل حبيس الدار حتى تقوم الوالدة من فراشها إيذانا بحلول وقت العصر والسماح باللعب في الزقاق.
في حينها كنت أعلن في داخلي عن غضبي لما تفعله الوالدة، ولا أجرؤ على فعل ما يخالفها أو في الواقع ليس لي من حيلة وربما كنت أختلس نظرة لأرى ما إذا كانت قد غطت في نومها لأدسَّ بدني الصغير بين مصراعي الباب خلسة هروبا الى الزقاق، وفي كثير من الأحيان كنت أرجع إلى باحة الدار خائبا مخفورا بالجرم المشهود، وكنت على صغر عمري أتساءل عن السبب الذي يمنع الوالدة من أن تسمح لوليدها باللعب مع الأطفال وكنت أشعر حيها بقساوة التربية، وعندما عبرت مرحلة الطفولة وبلغت مبلغ اليافعين عرفت المغزى من نوم الوالدة خلف الدار في الصيف بعد الظهيرة فقط وفي فصل الصيف، وليس على طول أشهر السنة، فليس الغرض من ذلك منعي من اللعب لأنها كانت تتيح لي الخروج صباحا إلى الظهر وعصرا والحظر يكون في وقت الظهيرة فقط، فالغرض كل الغرض هو حجزي عن إيذاء الجيران وقت الظهيرة حيث أخذ الجميع مقعدهم من نوم الظهيرة (القيلولة) وهي نومة عزيزة على العراقي في صيف العراق وبخاصة في شهر آب اللهاب، بل هي نومة عزيزة على سكنة المناطق الحارة في العراق وعموم المنطقة ودول الخليج العربية.
إذن نقطة الحراسة التي كانت تتخذها الفقيدة الوالدة في صيف العراق هي جزء من السلوك والتربية، فهي غير متعلمة ولكنها على قدر عال من التربية والثقافة الأسرية والمجتمعية، فمن التربية أن تمنعني من اللعب في حر الصيف ربما من باب الخوف علي من ضربة الشمس أيضا، ومن الثقافة إحترام راحة الجيران وإشاعة ثقافة السلامة المجتمعية والتقيد بأوقات اللعب وفق إشتراطات الزمان والمكان والظروف البيئية والمناخية.
وللوقوف على معالم التربية السليمة صدر للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في بيروت كراس "شريعة التربية" في 56 صفحة ضمَّ 110 مسائل فقهية مع 32 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري سبقتهما مقدمة للناشر وأخرى للمعلق وثالثة للمصنِّف.
مراحل التربية
التربية مفردة تعرّف نفسها بنفسها، ولأنها أمر فطري وجزء لا يتجزأ من كينونة الإنسان، فإن لكل واحد أن يدرك تعريفها اللغوي والإصطلاحي بما هو عليه من سلوك، وبالمجمل فإن التربية حسب ما يشير إليه الفقيه الكرباسي: (مصدر ربّى بالتشديد بمعنى التهذيب لغة، وفي الإصطلاح هي تزكية النفس بالمحاسن والفضائل المؤثرة على السلوك في القول والفعل) فالتربية هي تهذيب وتنميط للسلوك وفق قاعدة الخير والشر، وبتعبير المصنِّف: (التربية ليست عملية جراحية لزرع ما نريده او انتزاع ما لا نريده، بل هي ممارسة وإعداد لتطبع الشخص على مفاهيم تقوده إلى السعادة، وبالتالي فهي جمالية للنفس وللسلوك).
ولأن التربية سلوك وتهذيب وتحسين فهي خاضعة كما يؤكد المؤلِّف للتعليم والتمرين والمحاسبة، على أن تسبقها المرحلة التمهيدية وهي اللعب واللهو وهو حق طبيعي للإنسان في مرحلة الطفولة، وبتعبير الإمام جعفر الصادق (ع) وهو يحدد المراحل التربوية السليمة: (دع إبنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن فلح وإلا فلا خير فيه).
وهذه المراحل الأربعة في التربية على غاية من الأهمية، لأنها تؤسس لمستقبل الإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، وبالتالي فإن التربية بعمومها أمر فطري يُستحسن فيه سلوك ويُستهجن سلوك آخر، ولأن الأمور تعرف بأضدادها فإن السلوك الحسن يعرف بنقيضه، وذات يوم سئل حكيم: من أين تعلمت الأدب؟ أجاب: من عديمي الأدب! وهي حكمة ذات مغزى كبير، والإنسان بطبعه يدرك ما يصدر من الآخر من سلوك إن كان يحسب على خانة المؤدبين أو غير المؤدبين، من هنا فإن التربية كما يضيف الفقيه الكرباسي: (العمل على تحسين سلوك الآخر والتطبُّع عليه)، أي محاولة حثيثة لجعل السلوك الحسن جزء من طبيعة الإنسان وصيرورته، لأن الطبع في بعض الأحيان يغلب التطبُّع، كما يُظهر اللسان في بعض الأحيان ما يضمره المرء، فالغضب يظهر طبيعة الإنسان وتطبعه، ويكشف عن معدنه فعلا وقولا، والغناء يكشف عن كرم المرء وبخله، فالفقير هو فقير لا يملك أن يغدق على الآخرين، ولكن الفقير إذا اغتنى هنا تظهر معالم التربية والسلوك فإن أغدق على غيره من الفقراء فهو غني النفس في حالة اليسر والعسر وإلا صار في صف الغني البخيل الذي لا يشكر الله على نعمة الغنى فيمتنع عن إداء حق الغنى من خمس وزكاة وصدقة وتبرع.
أركان التربية
ولأن التربية تعليم وممارسة وتمرين وتهذيب، فهي تنطوى على أركان، حصرها الفقيه الكرباسي في أربعة: المربِّي، والمربَّى، والمنهج أو الأسلوب، والمضمون، والركن الأول بحكم الشرع الإسلامي هو الوالد، والوالدة، والجد، والمعلم، والوصي، وحاكم الشرع أي السلطة.
ولأن الركن الأول أساس في التربية لذا: (فإن أصل التربية واجبة حتى وإن كان بعض مواردها مستحبة ولكن مجموعها واجبة)، ولأن التربية واجبة فإن من حق الولد على الوالد أن يختار له أمًّا صالحة، ولهذا يؤكد المصنِّف: (على الأب أن يختار من النساء اللاتي يتمتعن بصحة جيدة وبأخلاق حسنة وذات عقيدة صالحة، وكل هذه من التربية المتقدمة على الولادة حيث إنها مؤثرة على سمعته أو حياته أو سلوكه أو مستقبله وكلها تُعد من الحقوق التي لابد على الأب مراعاتها)، وهذه مسألة على غاية من الأهمية، بخاصة وإن هذا الطفل سيترضع من حليب أمّه الذي صار مضرب الأمثال في الدلالة على حسن تربية الوليد من عدمه، بل وصار موضع قسم بين الأفراد في المعاملات والعهود والعقود كما يقسم الإنسان بربه، ولهذا كما يؤكد الفقيه الغديري في تعليقه على دور الأم في التربية: "الحق أنَّ الأم هي المدرسة الفطرية للأولاد، وتحملها المسؤولية في أمور التربية بالواجب الفطري والأخلاقي الذي يتوجه إلى الأب شرعاً"، وأحسن الشاعر محمد حافظ إبراهيم المصري (1872- 1932م) قولا:
الأمُّ مدرسةٌ اذ أعددتها ... أعددتَ شعباً طيبَ الأعراق
ولأن الولد يلحق بأبيه حيا أو ميتا، فحسن التربية مورد فخر للأب في حياته وموضع افتخار بعد مماته، ويشمله نماء الحديث النبوي الشريف وهو في ملحودته: (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).
وفي حال غياب الأب: (لضرورة أو سجن أو غير ذلك فالجد والأم يتحملان المسؤولية بشكل عام وإلا عيّن حاكم الشرع من يقوم بمصالح الأولاد والقصَّر)، ولأن التربية مراحل، فإنه: (تنتهي مسؤولية الأب بشكل عام عند بلوغ الأولاد بلوغاً شرعياً مع الرشد الفكري)، ويعلق الفقيه الغديري على المسالة قائلا: "ولكن يتوجه التكليف إليه أخلاقيا وذلك حسب الإقتضاء زماناً ومكاناً"، والتكليف الأخلاقي أدخله الفقيه الكرباسي في باب آخر، فــ: (دور التربية لا يقتصر على مرحلة الطفولة بل يبقى هذا الدور إلى مرحلة التقبل من الطرف الآخر والإستيعاب، نعم يدخل ما بعد البلوغ تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ويعتبر المنهج أو الأسلوب وهو الركن الثالث في عملية التربية على غاية من الأهمية في أن تؤتي التربية أكلها، فليست الشدة دليل قوة المربّي وليس التراخي والتساهل دليل سلامة التربية، فلابد من إعمال قاعدة التوازن: (فعلى سبيل المثال إذا أمكن إيصال المعلومة بالكلام اللطيف لا يجوز استخدام الكلام القاسي، والكلام القاسي إذا كان مؤثراً لا يجوز استخدام ما هو أعظم منه) على أن: (مراتب الأسلوب عرفية يشخِّصها الشخص حسب الظروف والموضوع والمربَّى، إذ إنَّ طفلا مثلا عن آخر يختلف، وفي دولة أو زمان عن آخر يختلف)، ولإن السلوك فيه دلالة عملية فإن الفقيه الكرباسي يضيف: (قد يكون المنهج العملي أنجع من المنهج القولي كأن يقوم المربِّي بالقيام بنفسه ليتعلم الآخر ويقلده، وعندها لا يحتاج إلى الإرشاد والكلام وهذا يرتبط بالتشخيص)، وعلى المربِّي توخي الحذر، فعلى سبيل المثال: (لا يجوز للمربِّي استخدام الكلام البذيء بل إنه يعكس صورة سيئة في ذهن المربَّى ويتعلم منه ذلك وهو خلاف المقصود بل ضدّه)، وقد كشفت الوقائع الجنائية وسجلات أطباء علم النفس أن التربية السيئة لها مدخلية كبيرة في تنشئة الخارجين على القانون وزيادة أرقام المصابين بالأمراض النفسية.
ولأن التربية سلوك ومنهج فإن من اشتراطات التربية الناجحة سلامة المضمون وهي: (المادة التي يجب إيصالها إلى الطرف الآخر، بمعنى آخر الفكرة التي يُراد تطبيقها، والسلوكية التي يُراد تنفيذها)، وهي تتمثل كما يشير الفقيه الكرباسي في ثلاث مواد: العقائد (الفكر)، والأحكام (القوانين)، والأخلاق (الفضائل)، أي من واجب المربِّي إفهام المربَّى بهذه المواد بأسلوب سليم ويُترك له الأمر بالإقتناع والممارسة.
في الواقع إنَّ التربية السليمة هي ضمانة وحصانة للفرد والمجتمع، وهي خلاصة رسالة السماء في الأرض التي تترجمها كلمات رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والتربية السليمة مدعاة لصيانة المجتمع والبلد من جور الجيران وعدوان البلدان.
وسوم: العدد 886