خاطبَ العقولَ ، ممسكاً بمفتاح الخوف ، فأطفأ الله به ، نارَفتنة حامية !
إنها فتنة قبلية، اشتركت فيها مجموعات ، من القبائل المتصارعة ، في خلاف ، حول قطعة أرض واسعة!
كانت القبائل تحتشد ، من الطرفين، استعداداً للقتال.. وكان الخطباء يثيرون حماسات المقاتلين!
أرسلت الشابّ ، ابنَ الثلاثين عاماً ، قبيلتُه ، إلى الجهة الأخرى ، جهة الخصوم ، باقتراح منه ، ليرى ماعند الخصوم ، أو الأعداء .. فيخاطبهم ، بما يقتضي الموقف! كان مجرّد رسول من قومه ، وكان يحظى باحترام الجهة المقابلة ، لاعتدال موقفه ، وعقلانيته ! ولما يسمعونه ، عن صفات أبيه النبيلة ، دون أن يروه !
بادر الزعماءَ ، في جهة الخصوم ، قائلاً : انظروا ، ما ذا ترون أمامكم ، على بعد مئات الأمتار؟ فقالوا : نرى حشوداً ضخمة من الرجال !
فقال : إنهم ، جميعاً ، يحملون أسلحة فتّاكة ، لقتالكم ، ويحملون دماءهم على أكفّهم، وهم مستعدّون للموت ، دفاعاً عن الأرض ، التي تدّعون أنها لكم ، وتطالبونهم بها! فهل تعتقدون ، أنكم ستنتصرون عليهم ، وتأخذون منهم شبراً من الأرض ، مادام فيهم رجل واحد ، على قيد الحياة !؟
شعر الرجال بواقعية الكلام ، وأحسّوا بالحيرة ، فيما يفعلون ! فاستنصحوه ، حول الموقف العقلاني السليم ، فنصحهم بإظهار النيّات الطيّبة، واللجوء إلى الحلّ السلمي، عبر المفاوضات ! فاقتنعوا بكلامه ، وأرسلوا معه رسالة شفهية ، بقبول ما ذكره !
سمعت امرأة من القوم ، ماتحدّث به ، وبما نصح به قومَها ، فزغردت ، فرحاً ، وهي تسأل ، من وراء جدار: أنت ابن فلان ؟ فقال : نعم ، فقالت ، بارك الله بك ، يابنيّ، وكثّر من أمثالك !
وتصالح الطرفان ، وانتهت الفتنة !
فكم بين الناس ، اليوم ، مِن فتنٍ ، تحتاج عقولاً ، كعقل ذلك الشابّ !
بعثت قريش ، عُمير بن وهب الجُمَحي ، ليستطلع قوّة جيش المسلمين ، قبل معركة بدر، فدارَعمير بفرسه ، حول معسكر المسلمين ، ثمّ رجع إلى قريش ، وقال : ثلاثمئة رجل ، يزيدون قليلاً ، أو يَنقصون ! ولكن ، أمهلوني ، حتى أنظر: اللقوم كمين ، أومَدَد ! فانطلق ، في الصحراء ، في االممنطقة المحيطة ، يبحث عمّا إذا كان هناك بقيّة ، لجيش الممسلمين ! فلم يرَ شيئاً ، فرجع إلى قريش ، وقال : ماوجدت شيئاً ، ولكني رايت ، يامعشر قريش ، الروايا تحمل المَنايا ؛ نواضح يثرب تحمل الموت الناقع .. قومٌ ليس لهم منعة ولا ملجأ ، إلاّ سيوفهم ، والله ما أرى ، أن يُقتل رجل منهم ، حتى يَقتل رجلاً منكم! فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش، بعد ذلك ؟ فرَوا رأيكم ! فقال عتبة بن ربيعة كلاماً ، ختمه بقوله : فاجعلوا حقّها برأسي ، وارجعوا ! فقال أبو جهل : جَبنتَ ، والله ، حين رأيتَ محمداً وأصحابه !
كان الخوف أهمّ مفتاح ، عرضه عمير بن وهب ، دون أن يقصد الإخافة ، بل التحذير! وحين اقترح عتبة الرجوع ، وصفه أبو جهل بالجبن، فخاف من هذه التهمة، وطغت ، عنده على تهمة الخوف من العدوّ ، فاندلعت الحرب ، وكان أبو جهل أحد قتلاها !
تلك معركة ، بين المسلمين والمشركين ، كان فيها أبو جهل ! أمّا معركة القبائل ، التي أطفأ الله نارها ، فقد غاب عنها أبو جهل ، وأمثال أبي جهل !
وسوم: العدد 886