معالم مشروع تحالف قوى الثورة المضادة
لعل من أهم الظواهر التي أعقبت اجهاض ثورات الربيع العربي في العام 2011 بروز تحالف «قوى الثورة المضادة» الذي كان خلال السنوات العشر الأخيرة الأكثر فعلا وأثرا في منطقة الشرق الأوسط. هذا التحالف يضم كلا من السعودية والإمارات ومصر والبحرين بالإضافة لـ «إسرائيل».
وبعد قراءة ملفات الربيع العربي أصبح لهذا التحالف اهداف واضحة بعد أن تمكن من تحقيق هدفه الاول بإجهاض كافة الثورات المذكورة. وعندما اطمأن التحالف لذلك بادر لإزالة الآثار التي ترتبت على ثورات الشعوب وسعى لاقتلاع افكار «الثورة» و«التغيير» وتهميش قيم «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«تداول السلطة» وسواها من مصطلحات التطور السياسي الحديث الآخذ بالأفول. وباختصار تتمثل اهداف هذا التحالف بما يلي: اعادة تشكيل التوازن السياسي والعسكري في المنطقة ليبقى التحالف مهيمنا بشكل مطلق، اقتلاع ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي» وتجلياته السنية والشيعية، استهداف إيران التي تعتبر التجلي الاوضح للإسلام السياسي خصوصا مع استمرار سياساتها الرافضة للاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وفرض التطبيع مع «اسرائيل» على الحكومات والشعوب العربية.
هذه الأهداف مدعومة من التحالف الانكلو ـ أمريكي، وتموّل من قبل التحالف السعودي ـ الاماراتي. ولكن فات هذا التحالف تطورات لاحقة لم تكن بالحسبان، أوضحها بروز الدور التركي وتمدد علاقاته الاقليمية مع كل من إيران والعراق وقطر. ويمكن طرح قراءة اخرى لما يحدث من تطورات في العديد من الدول العربية في الوقت الحاضر التي يمكن تصنيفها ضمن اهداف مشروع قوى الثورة المضادة. وبرغم أن هذا المقال لن يتطرق للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت ضد الحكومة التركية في صيف 2016 الا أنها تمثل صفحة اخرى من مشروع قوى الثورة المضادة.
الانقلاب العسكري الذي حدث في السودان العام الماضي لا يختلف في طريقة اخراجه كثيرا عن الانقلاب العسكري في مصر في العام 2013. كلاهما سبقته «تظاهرات» و«احتجاجات»، ومهدت لتدخل العسكر للإطاحة بالرئيس.
في الحالة الأولى تم إسقاط الدكتور محمد مرسي واعتقاله حتى وفاته عام 2019. وفي الثانية أسقط عمر البشير واعتقل، وهو مهدد بالتسليم لمحكمة الجنايات الدولية. وفي ليبيا ما تزال محاولات الانقلاب العسكري على الحكومة المعترف بها دوليا في بنغازي تراوح مكانها ولم تستطع اسقاط حكومة فائز السراج حتى الآن. الامر المؤكد ان قوى خارجية كانت وراء تلك الانقلابات. هذه القوى تقف وراء محاولات اخرى ما تزال في طور التمهيد. ففي لبنان تتواصل محاولات الانقلاب على الوضع السياسي، ومن المؤكد وجود قوى خارجية تدعم محاولات تغيير الوضع برمته. أما الحراك الميداني فإنما حدث بعد تمهيد الارضية له بمحاصرة لبنان اقتصاديا لإيجاد الدافع الفاعل للتحرك. فالبشر انما تحرك الكثير منه حاجته المادية وليس المبادئ او القيم.
الحديث هنا ليس عن مدى وجود أرضيات للاضطراب السياسي، بل عن القوى التي تمارس ادوارا عديدة اما بتهيئة مناخ الاحتجاج او تأجيجه إعلاميا بعد انطلاقه او توجيهه باتجاه مختلف عن اهداف المحتجين. الامر المؤكد وجود أرضيات صالحة للتحرك والاحتجاج في اغلب بلدان العالم، خصوصا العالم العربي.
من أهم الظواهر التي أعقبت اجهاض ثورات الربيع العربي في العام 2011 بروز تحالف «قوى الثورة المضادة» الذي كان خلال السنوات العشر الأخيرة الأكثر فعلا وأثرا في منطقة الشرق الأوسط
فهل هناك حكومة لا تواجه معارضة من الداخل لسياساتها خصوصا الاقتصادية؟ ولكن يبقى الامر ضمن الاحتجاج المدني السلمي الذي يسعى للإصلاح وليس لإسقاط النظام. المشكلة في بلداننا مركبة، فالنظام في الاعم الاغلب أولا: لا يتمتع بدعم شعبي لأنه لم يأت بإرادة شعبية، وثانيا: سياساته عاجزة عن تهيئة الحياة الكريمة للمواطنين. من هنا فاذا ارادت قوى خارجية استهداف أحد هذه الانظمة فلن تعدم الوسيلة لتحريك الوضع ضده.
وما حدث في العراق يمكن تصنيفه في هذه الخانة ايضا. فهناك فساد سياسي ومالي، وغياب للخدمات العامة، وتبديد للمال العام، وتمايزات دينية ومذهبية، لذلك يمكن تحريك الاوضاع ضد نظامه بسهولة. لقد استهدف العراق من قبل بالتطرف والإرهاب والطائفية، ولكنه استطاع التغلب عليها جميعا، وبقي جامعا لكافة مكوناته بإرادة مواطنيه الحرة. ولما تراجع الارهاب وتم القضاء على المجموعات المسلحة خصوصا داعش، بدأ مسلسل آخر. هذه المرة سهلت الحكومة السابقة تلك المهمة بقرارها تطبيع العلاقات مع كل من السعودية والامارات. فتدفقت الاموال التي ساهمت في تحريك الوضع ضد النظام.
في المرة الاولى كان العنف منطلقا من المناطق «السنية»، لكن الحراك السياسي الاخير انطلق من المناطق «الشيعية». انها صورة اخرى لما جرى في مصر والسودان وليبيا. المستهدف في هذه الحالات جميعا امران: الاول تجليات ما يسمى «الإسلام السياسي»، والثاني استئصال حالة الرفض للكيان الإسرائيلي من الوجدان العربي والإسلامي. في الحالات الاولى كان الهدف يتمثل اساسا بجماعة الاخوان المسلمين. فقد أسقط حكمها في مصر والسودان وأصبحت مستهدفة في ليبيا. وصاحب ذلك مشروع اعلامي واسع يهدف لشيطنة الجماعة واعتبارها عدوة للتمدن والتعددية الدينية وحقوق المرأة ومنطلقا للعنف الذي مارسته التنظيمات المتطرفة.
أما الحديث عن اليمن فلا ينفصل عن السياق المذكور. كان واضحا عندما شن التحالف السعودي ـ الاماراتي حربه على اليمن عام 2015 ان لديه اهدافا عديدة: اولها تكريس هيمنة التحالف المذكور على اليمن من خلال ما سمي «المبادرة الخليجية» التي جاءت بعبد ربه منصور هادي الى الرئاسة بدلا من علي عبد الله صالح. فثورة اليمن التي كانت ضمن الربيع العربي تعرضت للإجهاض بحصر نتائجها بإزاحة الرئيس واستبداله بنائبه، على غرار ما حدث في تونس ومصر اللتين حصر التغيير فيهما بإزاحة رأس الدولة. هذه الحرب لم تحقق اهدافها ولكن يجب استيعابها ضمن خطط قوى الثورة المضادة الساعية لاستئصال كافة تجليات المشروع الإسلامي السياسي.
ان من الخطأ الكبير التطرق لما يجري في البلدان العربية بانفصال عن بعضها. فهذا يمنع استيعاب المشهد السياسي كاملا، ويحجب صورة مشروع تحالف قوى الثورة المضادة الذي يتم تنفيذه بدقة على كافة الصعدان، ولن يمكن استيعاب ما يحدث في هذه البلدان، خصوصا في الاراضي المحتلة بشكل واقعي. فهل يعقل ان تتلاشى ارادة امة العرب والمسلمين الى هذا المستوى؟
تلك الامة التي صمدت سبعين عاما بوجه الاحتلال وأجبرت العالم على مقاطعته وعدم الاعتراف به عقودا، هل يمكن ان تصمت بهذا الشكل القاتل على نقل سفارة امريكا وغيرها الى القدس بدون ردة فعل شعبية كما اعتادت فعله من قبل؟
هل يمكن تصور ترك الفلسطينيين وحيدين في ميدان التصدي للاحتلال، ويتم التطبيع العلني مع حكومته حتى بعد ان قررت ضم اراضي الضفة الغربية والجولان لكيان الاحتلال؟
لم يحدث ذلك الا بعد حقن شعوب الامة بأمصال التخدير القاتلة في غياب قادتها الشعبيين في القبور او وراء القضبان. لقد استخدمت كافة الوسائل القذرة لإيصال العرب والمسلمين الى هذا الوضع الذي جعلهم يعيشون على هامش التاريخ، ومنها التطرف والارهاب والطائفية، وكلها اساليب استطاعت نخر الأمة من داخلها ونقل صراعاتها من الخارج الى الداخل.
وسوم: العدد887