في الفقه الاجتماعي .. واقع المسلمين عورة !!
أزماتنا العامة ؛ الإنسانية – الفكرية – الثقافية – السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية ، متداخلة متعانقة مستحكمة . تفري فريها في أديمنا ، وإن كان بعضنا يظن ، أن تجاهلها خير طريقة لعلاجها . وتجاهل المرض هو مدخل استفحاله واستعصائه .
الأعجب في أمرنا أن نظن أن حياتنا الاجتماعية في ألف خير . وأن كل بلائنا من هؤلاء البشاشير . قال تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) ولم يكن ليستخفهم لولا قابليتهم للاستخفاف . ورحم الله مالك بن نبي . وواقعنا الاجتماعي في قواعده وفروعه عورة تكشفت عن الكثير .
ولقد ساعدتنا فضاءات التواصل الاجتماعي ، وأشكال الإعلام الجديد ، أن ندرك حجم الخرق ، أو أبعاد هذه الأزمات بشكل أفضل ، أشمل وأوسع وأعمق ... ولنجد أحيانا أنها مثل كورونا في عداد ضحاياها الكثير من الأطباء والمسعفين، أو من حسبناهم أطباء ومسعفين ..
في علاج واقعنا الاجتماعي بشكل أوضح يحتاج عبد المعين لمن يعين !!وبكلمات نقول : الإصلاح الاجتماعي وفق معايير إسلامية حقيقية هو الأمر الذي ما زال أبعد عن تصورات المسلمين – ولا أحب استعمال مصطلح الإسلاميين – مازال الإصلاح الاجتماعي بعيدا عن تصورات المسلمين ، وليس فقط عن برامجهم ، وأطروحاتهم . وأزيد فأقول والمسيرة على هذا المحور تأخذ بعدا ارتداديا ناكصا بوضوح . كرد فعل وقائي أو كيدي على عمليات الانخلاع . المسار الاجتماعي لأسباب كثيرة يتشبث عن عمد بالدائرة التي تختلط فيها القيم الإسلامية بالعادات والتقاليد البيئية والظرفية في أمكنة التصحر وأزمنته .
وبعد أن تهدج صوته طويلا يحدثنا عن قيمة الحرية الجميلة في مجلاها السياسي ، سألته مستفهما عن الحرية الجميلة في مجلاها الاجتماعي . فأبلم . وأنا أيضا أميز بين الحرية والفوضى . كل الذي أحلم به أن نبني تصوراتنا الاجتماعية في ظلال العصر والبيئة اللتين نعيش فيهما .
في الحياة الاجتماعية اعتقدت شخصيا منذ عقود أنه لا يفتي بادٍ لحاضر!! حتى عمر رضي الله عن عمر ، حين راجع سيدنا معاوية في أبهته وثيابه ، وأجابه سيدنا معاوية بما أجابه به ، قال عمر : لا آمرك ولا أنهاك . وكثير من الفقهاء نصوا : أن المفتي البعيد عن مجتمع ، لا يفتي لأحدهم حتى يتعرف إلى أحوال أهله وعوائدهم وأعرافهم .
قبل أسبوعين فقط من انفجار الثورة في آذار 2011 ، كان بشار الأسد يجري لقاء مع وول ستريت جورنال ، ويعلن بكل الثقة مسترخيا ، أنه لا يخاف من انتقال مد الربيع العربي إلى سورية ، ويعلل ويتمطى ويزعم ويسهب في التعليل ..!!
كثير من نخبنا – المسلمة – ومن فقهائنا ، يتحدثون عن مجتمعاتنا بالثقة المبالغ بها نفسها ، و بالأسلوب ذاته . لا مشكلة . وكل شيء تحت القبة . بل وكل شيء حسن وجميل .
إلى أي حد يقبل المسلمون بالشعائر المظهرية : اللحية – والتردد إلى المسجد – والحجاب ، معايير اعتبارية في منح الأوصاف والألقاب ؟! للتذكير فقط الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه لم يقبل : القيام في المسجد ورفع الرأس تارة وخفضه أخرى معيارا للتزكية والتعديل .
حجم الأزمات الاجتماعية في مجتمعاتنا ، ومجتمعاتنا متعددة المنازل على السلم الاجتماعي ، أوسع من أن نحيط بها في مقال ..
والأزمات المجتمعية متداخلة مع الكثير من الأزمات الأخرى ومنها الثقافة والتعليم ومنها السياسة والاقتصاد ..
أكبر خلل نعيشه في حياتنا الاجتماعية – الفقهية العملية - هو اختلال منظومة القيم المعيارية الإسلامية والمجتمعية بشكل خاص . القيم التي تحكم على الإنسان المجتمعي بالصلاح أو بالفساد ، بالسلبية أو بالإيجابية. ويوم قالوا في وصف غني لغناه هذا حري إن شفع أن يشفّع ، وإن خطب أن يزوج .. ثم قالوا عكس ذلك بحق فقير لفقره .. : قال الرسول الكريم صلى الله وسلم عليه مصححا : فإن هذا -للفقير- خير من ملء الأرض مثل هذا - للغني - . كان هذا الحديث تصحيحا للقيم المعيارية ما زلنا نفتقد الصواب فيها . ولم يكن معيار الخيرية فقرأ أو غنى ، بل كان المقصود استبعاد الفقر والغنى عن هذه المعيارية . والشهادة للفقير بالخيرية ، لم تكن بسبب فقره بل لأسباب أخرى كما نص عليه الشراح .
. ومثل سريع آخر للرجل الذي كان مع السرية في السفر ، وعاد المسلمون يذكرون من صلاته وصيامه وقيامه وذكره ، فردهم رسول الله إلى الحقيقة بسؤال : أيكم كان يخدمه ؟! قالوا : كلنا كان يخدمه ، أجاب : كلكم خير منه . تصحيح قيمي معياري آخر ، ما زال المسلمون يتتايعون على الخطأ فيه ..
في حياة الفرد المسلم ، ووضع معايير صلاحه وفساده ، إيجابيته وسلبيته ، عدالته وسفهه ، يبدأ الخلل . قال المنافقون : أنؤمن كما آمن السفهاء . ما معايير السفه في حياة المسلمين اليوم ؟ من هم السادة ومن هم السفلة . وسفيان الثوري يقول : السفلة من يبيع دينه بدنياه . وسفلة السفلة من يبيع دينه بدنيا غيره ...قيم اجتماعية بشرت بمجتمع مسلم ربما نقول انقرضت أو انقرض .
ولو راجعنا معتمدات منظومة التقويم الاجتماعي الإسلامي هذه في أذهاننا جميعا لوجدناها قد رانت على العقول والقلوب فلا نكاد نجد من أسرها فكاكا .. بحيث لا نستطيع مقاربتها بنقد ولو من بعيد ..!!
ومن منظومة القيم المعيارية ، إلى ترتيب الأولويات الفردية والجماعية ، أو ما يسميه الفقهاء السلم الحاجي تحت عنوان : الضرورات – الحاجيات – التحسينات أو الكماليات ..
وفي إعادة التصنيف تحت عناوين الضرورات ..والحاجيات والكماليات الاجتماعية بالنسبة للفقيه للمسلم عمل كثير ..وهو ترتيب تنبني عليه كثير من الأحكام التبعية . والتمسك بترتيبات عصور خلت هو باب من أبواب التضييع والفساد .
ولا نظن أن مثل هذا الترتيب عمل أدبي أو إنشائي . " الضرورة الفقهية " مصطلح شرعي . ينبغي له وينبغي عليه . وما كان في عصر ضروريا ربما يكون في عصر حاجيا . والعكس بالعكس . وعلى كل هذا تنبني أحكام ..
عمر يقول ومرة ثانية رضي الله عن عمر : من ولي لنا عملا وليست له زوجة فليتخذ زوجة ، وليست له دابة فليتخذ دابة ، وليس له خادم فليتخذ خادما ..أين تقع هذه الأولويات في سلم " الرجل العام " في هذا العصر اليوم ؟!!
ومن هذا وذاك ننتقل إلى بعض التفاصيل ..
فمكانة الفرد المسلم – رجلا وامرأة – ولا أريد أن أقول – ذكرا وأنثى - ما تزال عائمة في الفقه الاجتماعي لفقهاء عصرنا من المسلمين . أحيانا يصورونه كلبنة منتزعة من قصر خليفة أو سلطان . أو من حلقة ذكر أو رباط أهل رباط. اختزال المجتمعات المسلمة التي جاهدت وأعطت وضحت في صور نمطية . التركيز على بعض معطيات الشكل الحضاري . ومنها زي الثياب والأدوات والوسائل . النكوص الكبير الذي شهدته حياة المسلمين على مستوى العلاقة بين " الشقيقين " القرآن الكريم يقول (إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) والحديث في النص القرآني عن كلام بين رجل وامرأة في أخص الخصوصيات . ومسلمون في القرن الخامس عشر يتجادلون هل يجوز أن نشرك نساء في مجموعات تواصل مفتوحة عبر الواتس !!
ثم بناء الأسرة المسلمة في أفقها المفتوح على العصر يشكل لنا أزمة أخرى ..أزمة في قاعدة البناء ، وفي سقفه . والكلام في هذا الميدان ما يزال بعض المحرمات .
كثير من المسلمين عندما يتحدثون عن الأسرة المسلمة يغرقون في مثاليتهم بالحديث عن محضن تنشئة الأجيال . وينسون أو يتناسون في مثالية مدعاة ، على أن هذه الأسرة هي القاعدة الشرعية الوحيدة التي يفضي بها الذكر والأنثى بعضهم إلى بعض ، في ظل حياة اجتماعية إسلامية. وحين يرتفع سن الزواج في مجمل بلاد المسلمين، إلى سن الخامسة والثلاثين ..فإن على الفقيه أن يتساءل : ماذا يعني هذا ؟ ما هي انعكاساته ؟! وما هي تداعياته؟!
رددنا على فرويد فقلنا : إن الكبت يعني الازدراء ولا يعني التأجيل . ولكن حين يصبح التأجيل هو الأصل . وحين يحرق التأجيل الأعصاب ويصبح الدافع الطبيعي مثل الوسواس القهري فيأكل الأوقات في السنوات الأطول والأشد وطأة . بين الخامسة عشر والخامسة والثلاثين ..يطلب من الفقيه المسلم المهتم مبادرات تحفظ الدين والنفس والعرض أيضا بتوازن وبدون خلل ..
الفقيه المسلم ينبغي أن يكون عالما بفقه النص ، وبظروف العصر ، وبأبعاد ما يعايشه الناس ..وينبغي أن يكون فوق ذلك شجاعا بطلا مغوارا يصدع بالحق ولا يبالي .. وينبغي أن يكون وريثا محمديا حقيقيا يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي فرضتها عليهم تراكمات العصور ، وتقلبات الأزمان ..ليس ذنب الشاب المسلم أنه ولد في مثل العصر الذي نعيش ..
في كتب الفقهاء المعتبرين منذ القرون الأولى اجتهادات ونظريات وفتاوى في فقه المرأة والأسرة والاجتماع ، ما لو ذكرته لقلتم وقلتم وقلتم ولن أذكره ولن أقول ..سيدي أبو هريرة يقول : لقطعتم هذا البلعوم .
وأنا هنا لا أتحدث عن غرائب علم ، ولا عن فقه متنح ، ولا عن آراء شاذة ، وإنما حديثي عن اجتهادات معتبرة لفقهاء أعلام مثل السرخسي والماوردي والجويني والغزالي والكاساني .. أكثرهم من القرن الخامس ولكل منهم أقوال معتمدة في الحياة الاجتماعية ، أكثر جرأة في الحق ، مما يقول فقهاء القرن الخامس عشر ، وأكثر التصاقا بالحياة وصلاحية لما يعيش المسلمون في القرن الحادي والعشرين ..
( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ )
وسوم: العدد887