حكاية قرية "عراق المنشية" و "كريات جات" وذكريات لن تمحوها اتفاقيات التطبيع
مستوطنة "كريات جات" المقامة على قرية "عراق المنشية" الفلسطينية المحتلة، تلك القرية المنكوبة منذ بداية التأريخ انتهاء بالاحتلال الصهيوني عام 1948م ، صمدت وقاتلت وقُتلت وخُدعت.
وقبل البداية دعونا ننقل لك عزيزي القارئ وصف هامْا عنها، فهي قرية تبلغ مساحة أراضيها 17,901 كم² ، حيث تقع بين مدينتي الفالوجة والخليل، وتبعد عن مدينة غزة حوالي 32 كلم² إلى الشمال الشرقي، حيث امتازت بتضاريسها الجبلية ومجموعة من التلال المتموجة الشامخة كقصتها في عنوان التأريخ الفلسطيني كشموخ ارتفاع هضابها.
وهي القرية الرحبة السهلة من جانب آخر، حينما تميل أرضها في جزئها الغربي إلى الانخفاض والاستواء نحو الغرب لتصبح أجواؤها ساحلية بمعنى الكلمة كما وصفها الواصفون، لقربها من الأطراف الشرقية للسهل الساحلي الفلسطيني، والتي ترتفع عن سطح البحر 125م، والتي تبعد عن شاطئ يافا الجميلة 56 كم² ، و عن مدينة مدينة بئر السبع في الجنوب 43 كم²، و عن عاصمة فلسطين الأبدية القدس المحتلة 68 كم².
ولبَركة هذه الأرض، فقد كان أهل هذه القرية لا يحفرون عميقا، فتخرج المياه العذبة والغزيرة من آبارها، وذلك لقرب عمقها من 15م² إلى 22 م² من سطح الأرض، فاشتهرت بآبارها السبعة، والتي كانت مرتكزا رئيسا في تنمية الزراعة ورعاية وتربية الماشية.
ومن جهة احصائية فقد كانت حجم الأراضي المزروعة منها 13.463 دونم بالحبوب، و 53 دونم من البساتين المروية، مع اعتماد أهلها بشكل عام على الزراعات المروية من مياه الأمطار لمناخها الماطر والمعتدل، و كانت المساحة المبنة منها 169 دونم مخصصة لإقامة سكان القرية، وبعض الزرائب للماشية وخلايا النحل، و سوق البُسط، والتي كانت تُنسج من صوف الماعز، وتُصبغ في مدينة الفالوجة، حيث جاء في كتاب ملكية الأراضي في متصرفية القدس 1858م - 1918م للمؤرخ د. "أمين مسعود أبو بكر" : «أن بيوت قرية عراق المنشية عام 1871 م (114) بيت معمور، وفي عام 1905 م حسب الوثائق العثمانية (126) بيت معمور وفي عام 1931 م أصبحت البيوت المعمورة (299) بيت وقبل تهجيرهم في الأول من آذار عام 1949 م كانت البيوت المعمورة في القرية (517) بيت».
هذه القرية العريقة المهجّرة كانت آخر القرى الفلسطينية التي سقطت بيد العصابات الإرهابية الصهيونية المُجرمة بعد عام كامل من عام النكبة وظلّت صامدة تحت القصف والدمار حتى شهر شباط من عام 1949م، بفضل أبناء القرية وأبناء الأمة من المجاهدين المتطوعين، وجنود من الجيش المصري، حتى تم عقد اتفاقية "رودوس"، والذي تبعها تشريد أهلها البالغ عددهم عام 1949م حوالي 2332 نسمة.. حيث بدأت مرحلة اللجوء الأول لغالبية السكان إلى "مخيم العروب والفوار" في منطقة الخليل وبعد النكسة كان النزوح للعدد الأكبر إلى الأردن كلاجئين مسجلين لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في مناطق تجمع جديدة.
واليوم تجثم على أنقاض هذه القرية المباركة مستعمرة "كريات جات" التي تعد من أضخم مدن الاحتلال الصناعية في هذه الأيام، حيث يوجد فيها مصانع السكر والحديد، وكبرى شركات التقنية ومنها شركة Intel والتي تستثمر أكثر من 11 مليار دولار في مصانع و شركات كبرى مثل: VISONIC، و Numonix، و HP، وHmsbb، و مؤخرا شركة المشروبات الغازية Coca-Cola "كوكاكولا" ببناء مصنع جديد لها فيها.
ولقرية "عراق المنشية" تاريخ أقدم من الاحتلال الصهيوني؛ فقد كانت "أموريّة كنعانية" منذ عام 2500 قبل الميلاد، حيث نزل "الأموريون" داخل بلاد الشام وجنوبها، واستوطن الكنعانيون ساحلها وجنوبها الغربي، حيث تمركز فيها قبائل العناقيون من القبائل الكنعانية العريقة: والذي يُنسب إليهم أهالي "جت" (عراق المنشية)، حيث كانت منازل (العناقيون) تمتد من جنوبي الخليل إلى (القدي) ونزل بعضهم الساحل.
وتنسب المصادر التاريخية إليهم بناء مدينة (أسدود)؛ وقد اشتهر من رجالات قبائل العناقيين الكنعانيين "أربع" والذي يعتبر أعظم رجل ظهر في قومه، وهو باني ومؤسس مدينة الخليل وقد نُسِبت إليه يومئذ (قرية أربع) بمعنى مدينة أربع.
وقد ذكرت المصادر التاريخية أصل اسم شعوب تلك البلاد بشعب (بيليست / peleset) والذين ذكروا في العهد القديم باسم الفلسطينيين كذلك، و الذي كان يلقب حاكم المدينة بلقب سيرين ( Seren )؛ ومن أبطال هذه القرية في سيرة التاريخ (جوليات / أو جالوت Goliath )، الذي ولد في قرية "جت" "عراق المنشية"، و ( أخيش / Achich )، هو أحد ملوك "جت" أيضا.
وقد تم اكتشاف في عام 2012م بعض المقتنيات والكنوز البيزنطية الأثرية والتي تعود لفترة القيصر نيرون "حارق روما" والقيصر "فتريانوس" ، حيث حكما في الفترة مابين 54 - 117 بعد الميلاد.
أما الفترة العثمانية فقد كانت قرية "عراق المنشية" من ضمن 18 قرية فلسطينية تابعة لـ "سنجق غزة" من ولاية "دمشق" منذ بداية الحكم العثماني المبكر عام 1596م، والتي كانت تدفع الضريبة للدولة العثمانية ما نسبته من الدخل الزراعي والحيواني (25٪ إلى 33٪).
وأما عن التسمية فكانت في الأصل تحت اسم (عراق) من جمع (عرق) وهو وصف يُنسب للمكان المرتفع بين السهول والبساتين، وكانت مع قرية عراق الهتيم (حاتم) وحدة متشاركة جغرافيا واجتماعيا إلى أن تم ضم الأخيرة إلى قرية (عراق) فصارت بما يُعرف بـ (عراق المنشية)؛ و (المنشية) باللغة الدارجة الفلسطينية يُقصد بها أي حديثة النشأة.
ثم باتت هذه القرية تابعة لقضاء المجدل من مدينة غزة إبّان الانتداب البريطاني، حيث شارك أهلها في مقاومة الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية المدعومة منهم، فقد سطّر أهل هذه القرية ما بين الاعوام 1936 - 1939 م أسماؤهم من نور إلى جانب الحركة الثورية الفلسطينية، وبقيت في صراع النار والبارود والدم حتى تم تهجيىر سكانها.
ومع أنها كانت من ضمن الأراضي المخصصة للدولة العربية بموجب قرار التقسيم للأمم المتحدة عام 1947م، إلا أن الغدر الدولي والجريمة الصهيونية المستمرة نجحت في احتلالها منذ عام 1949 ليومنا الحاضر.
اكتسبت هذه القرية الفلسطينية أهمية جيوسياسية على مدار التأريخ المعاصر، فقد كان لموقعها المركزي أهمية كبيرة، لوقوعها على الطريق الموصل بين مدينة الخليل وقطاع غزة، وبين مفترق طرق استراتيجي للمتجه جنوبا لمناطق بئر السبع، وللمتجه لمدينة الفالوجة غرباً، وشرقا وصولا إلى الخليل، ومن ثم إلى الطريق الشمالي المؤدي إلى مدينة وساحل أسدود.
كما يضاف لأهميتها الاستراتيجية وجود محطة وخط سكة الحديد العثماني، الذي كان يمر من خلال أراضيها، والذي كان يربط مدن شمال فلسطين بمدن جنوبها، والذي تم تدميره في أوائل الحرب العالمية الأولى.
أما عن حكاية احتلالها، فهي رواية تجمع بين ثناياها قسوة الفَقْد ومرارة الخيانة، حيث كان قائد الكتيبة السادسة للجيش المصري إبّانها ( جمال عبد الناصر ) - الرئيس المصري السابق - ، والذي دأب على طمأنة أهالي القرية أنهم لن يسلموا القرية وموقعها الاستراتيجي للعصابات الصهيونية ولو على حياتهم.
ولكن قلم التأريخ سجّل في صفحاته أنه أي - عبد الناصر - من أوائل من تولى لاحقا مفاوضات مراحل تسليمها مع القائد الصهيوني ( سايل سكرمان ) حيث اتفقا على أن يسلم الجيش المصري القرية بلا قتال مقابل عدم الانتقام من القوات المتبقية من الجيش والمتطوعين العرب والأهالي، وهو خلاف ما ذكره الرئيس عبد الناصر في مذكراته والذي يقر لاحقا بعد وصفه المعارك الباسلة للجيش المصري والمتطوعين السودانيين أنه تم إرساله من قبل الجيش المصري لتبادل الجثث حيث يقول في مذكراته:
«ذهبت بعد انتهاء الحرب وبعد الهدنة إلى عراق المنشية في يناير / كانون الثاني 1950م، ودخلت بواسطة رجال الهدنة لأُطْلع اليهود على مقابر هؤلاء الجنود لأنهم لم يستطيعوا معرفتها وطلبوا من رجال الهدنة أن يرسلوا أحد المصريين ليريهم هذه المقابر.. وقد أوفدني الجيش المصري لأعّين لهم المقابر لأننا كنا نتبادل الجثث..»
في اليوم الـ 25 من شباط من العام 1949م انسحب الجيش المصري منها، بعد اتفاق (رودوس)، والذي اعتبر الفالوجة وقرية "عراق المنشية" أرضا محرمة دوليا، ولتبدأ فصول انتهاء الحرب العربية مع العصابات الصهيونية، مذعنة بآخر فصول الهزيمة.
وفي اليوم التالي الـ 26 من شباط من العام 1949 م دخلت القوات الصهيونية إلى القرية وبدؤوا يعيثون فيها فساداً وتدميراً، وذلك لحقدهم على صمود أهلها أمام العصابات الصهيونية، والتي أوقعت معاركها أعدادا كبيرة من القتلى من هذه العصابات الإرهابية حسب الشهادات التاريخية لقيادات الاحتلال الصهيوني.
واستمر التنكيل بهم لإجبار الأهالي على الهجرة، فطالب أهالي القرية تنفيذ بنود الاتفاق والحماية الدولية من المراقبين الدوليين والذي كان أحدهما مصريا والآخر مراقب دولي من السويد يدعى (تيستي) حيث أخبر وفد القرية : «لا أستطيع حمايتكم، والأفضل أن تخرجوا» وكان جواب الأهالي: « لا نريد الخروج، بل نريد أن نبقى في وطننا، وأمرنا إلى ﷲ»، ثم بعد حوار بين الجانب المصري مع الأهالي على أن يتم ترحيلهم (مُؤقتا) إلى "مخيم العروب" لحمايتهم من القتل، كي يعودوا لاحقا بعد تفعيل اتفاق الهُدنة.
وهنالك حيث آمن الأهالي بصدق وعود قادة جيوش العرب، كان على الجانب الآخر من القصة، الخيام المنصوبة، والتي كانت تنتظرهم، والأسى قد كسر قلوبهم، وخيبة الهزيمة العربية قسمت ظهورهم، ولم يعد أهل هذه القرية إلى يومنا هذا، كما لا يزال الجدال القانوني الدولي إلى يومنا هذا حول عدم شرعية تهجير أهالي هذه القرية، وذلك بعد معاينة بنود الاتفاقية المصرية مع العصابات الصهيونية وبضمانات وشهود دوليين عليها، والتي صمتت صمت البيوت الخاوية من أهلها مما اقترفته العصابات الارهابية الصهيونية المجرمة على مدار عامين كاملين من قصف وتدمير وقتل لسكانها ومن معهم من شجعان وأبطال جنود الجيش المصري ومتطوعين سودانيين.. ومما يؤكد على خطوط المؤامرة الدولية على حقوق الشعب الفلسطيني والتي لا تزال منذ اليوم الأول لهذا الكيان تقف معه بغير حياد، ومتسترة بشكل صريح وفاضح لجرائمه وانتهاكاته.
واليوم ونحن في 30 من آب من العام 2020 تعود قرية "عراق المنشية" لتتصدر عنوان الحكاية من جديد بعدما اختارت حكومة سلطات الاحتلال الإسرائيلي اسم مستوطنة "كريات غات" لتسمي أولى طائراتها التجارية المتجهة في رحلتها الأولى إلى العاصمة الإماراتية "أبو ظبي" والتي حملت في داخلها الوفد الرسمي الأول، والذي سيدشن التطبيع بأولى جولاته وخيباته.
إن اختيار سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم يكن عبثيا ولا عارضا لغويا ولاشكليا ولا دعائيا كما يظن البعض، بل له دلالات التاريخية وسياقاته الرمزية والعقائدية كذلك.
لأنه يُذكر العالم بانتصار بني اسرائيل حين هزم جند النبي داوود عليه السلام الملك جالوت على أرض هذه القرية؛ ومن ثم انتصار بني إسرائيل على الملك "عزيا" في القرن التاسع قبل الميلاد، ومن ثم انتصار اليهود على العرب في حرب 1948م واحتلال فلسطين، وإعلان دولة "إسرائيل"..
واليوم يعلنون الانتصار الجديد ولكن دون قتال، ومن على أجنحة طائرة تحلق فوق بلاد العرب، ولتطلق العنان لجيل التطبيع الجديد، وخيبة جديدة تتبع سلسلة لا تنقطع من الخيبات وقصور النظر والتخطيط الاستراتيجي لمن يقودون المشهد السياسي العربي.
ختاما، ستبقى الذكرى المؤلمة لهذه القرية المجهولة لهذا الجيل، كما هي كذلك حقيقة الطعنة الغادرة المعلومة من خيانة قادة العرب، وستبقى هذه القرية علامة فارقة في سجل تأريخ الشعب العربي الفلسطيني باسمها العريق "عراق المنشية" المباركة، وليست مغتصبة "كريات جات" الإسرائيلية.
وستبقى هذه القرية شاهدة في عناوين التأريخ بما تبقى من بقايا جدران بعض بيوتها المهدمة على حقيقة أنها أرض عربية فلسطينية رغم أنف كل اتفاق وكل حوار وأي شكل من اعتراف أو تطبيع.
وسيبقى أهلها في الداخل والشتات، الأوفياء لترابها ولشهدائها ولتأريخها، مستمسكين بالحق الأزلي بالتحرير والعودة والبقاء على العهد والوعد.. عهد القدس والأقصى والشهداء والمقاومة.
*وﷲ من وراء القصد، وهو يهدي السبيل*
وسوم: العدد 892