«بي بي سي» أم «النيل للأخبار»؟
إن مثل قناة «بي بي سي» كمثل «بلدياتنا» كما في النكتة الشهيرة.
فقد جاء في الأثر، أن نفراً من جنسيات مختلفة كانوا على ظهر سفينة، وإذ غرقت هذه السفينة ووجدوا أنفسهم في جزيرة معزولة، وقد تقطعت بهم السبل، وبينما هم يضربون أخماساً في أسداس، وأسباعاً في أثمان (كناية عن الحيرة المسكونة بالحسرة) هبط عليهم مارد، وقد أخبرهم أن لكل منهم طلباً واحداً سيقضيه له في الحال، فكان طلب الإنكليزي، كطلب الفرنسي، مثل طلب البلجيكي، أن يحملهم في سرعة البرق إلى أوطانهم، ولم يتبق إلا بلدياتنا هذا، فلما سأله المارد عن طلبه الوحيد، نظر حوله وقد شعر بالوحشة، فكان طلبه أن يعيد رفاقه إليه!
فالقناة البريطانية محظوظة بالتاريخ وليس بالحاضر، وهي سمعة تأسست بفضل راديو «هنا لندن» القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية… معكم محمد الأزرق» هكذا «الباكيج» كاملاً.
ومنذ أن كنا نلتف حول جهاز الراديو مساء، لنعرف عن أوطاننا ما يحجبه إعلام بلادنا، وحاول «صوت أمريكا» أن ينافس في هذا عبر مراسله إبراهيم عابدين، لكنه لم يستطع أن يكون بديلاً لـ «بي بي سي» أو منافساً لها، فهي تقدم وجبة تكتمل ببرنامج ما يطلبه المستمعون من الأغاني العربية، وكان أهم ما يميزها هذه الأصوات الفاخرة عالية الجودة، وهو ما افتقدته الآن، وقد سألت المخضرم أيوب صديق، إن كان هبوط جودة الأصوات مرده إلى عوامل التعرية، فلم يعد شيئاً على أصله، فلماذا تبقى الأصوات الإذاعية؟ فأجاب: بل المجاملات!
كان الاختيار في اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر يتم وفق ضوابط مهنية، مع الوضع في الحسبان نسبة للمجاملات، فلما طال عليهم الأمد اختلفت الأمور، وصارت القاعدة والاستثناء للمجاملات، وصرخت ذات مرة قيادة إعلامية وهي تطلب بأن يكون الاستثناء للمواهب، ما دامت المجاملات قدراً، حتى يجدوا في المستقبل من يتولى العمل، لكن لم تستطع أن توقف هذه القطار المندفع إلى الهاوية.
وإذ قلت إن «بي بي سي» محظوظة بمرحلة النشأة والتكوين، فقد كان يمكن أن تبني على هذا النجاح أو تحافظ عليه، فقد كنت أنظر حولي وأنا أطالع الفشل، فكل المحطات التلفزيونية الناطقة بلغة الضاد، التي تبث من بلاد العجم فشلت، فهل يعقل – يا إلهي- أن تفشل جميعها وبعضها لا ينقصه المال للنجاح، ومن القناة الألمانية، إلى «فرانس 24» إلى التركية، إلى «العالم» الإيرانية، وعذراً للنسيان، فالبعيد عن العين بعيداً عن القلب، ورغم تغيير الإدارة لأكثر من مرة في قناة مثل «الحرة» الأمريكية، فلا تزال محلك سر، فهل الفشل قدر؟!
معاناة الحرة
ربما اعتمد أهل الحكم في «بي بي سي» نظرية أن الفشل قدر، فصار الأمر أقرب إلى تسيير الأعمال منه، إلى المحافظة على النجاح، الذي ورثه الأحفاد من الأجداد، فالقناة البريطانية لم تعان معاناة «الحرة» في بدايتها مثلاً، فقد ولدت في حالة عداء للسياسات الأمريكية، وكان هدف بعثها كفيلاً بإعطاء المشاهد ظهره لها، وهو «تبييض الوجه الأمريكي» وكتبت هنا: ماذا تفعل الماشطة في الوجه العكر؟!
لقد قوبلت «الحرة» بمقاطعة النخبة، وهو ما مثل معاناة لمراسليها في القاهرة في زمن الحراك ضد مبارك، رغم انحيازها لهذا الحراك، وتغطيته بموضوعية، ولعل هذا كان سبباً في افساد المقاطعة بمرور الوقت مع تغير قناعات بعض المقاطعين، ولم أكن منهم بطبيعة الحال، بل كتبت مطالباً باستغلال وضعيتها في نشر رسالة الرفض للنظام المستبد، فلن يجرؤ على مطاردتها أو اغلاقها، فالعين لا تعلو على الحاجب، وبطبيعة الحال لم يكن من يجلس في البيت الأبيض، هو المغرم صبابة بديكتاتوره المفضل!
لم تعان «بي بي سي» معاناة «الحرة» ومع هذا لم تستغل مكانتها في المحافظة على النجاح، وصارت مع الأيام الأخيرة نسخة من قناة «النيل للأخبار» وللعلم لم يعد اسمها «النيل للأخبار» فقد حذفوا «للأخبار» لتصبح قناة «النيل» فقط، ولدى القوم أزمة سببها الاعتقاد بأنهم يرون أن المشكلة في الاسم، ولهذا تم تغييره أكثر من مرة، وعلى ما أتذكر أنهم غيروه ذات مرة، لتكون «قناة مصر الإخبارية» تفاؤلا بالنجاح منقطع النظير الذي حققته «الإخبارية» السعودية، رحم الله موتاكم!
لقد قررت «بي بي سي» أن تضع رأسها وسط الرؤوس، فإذا فشلت القنوات العربية، التي تبث من بلاد الخواجات، فلماذا تكون هي نشازاً، وظهر هذا جلياً في تجاهلها لحراك الريف المصري، غير المسبوق، والذي مثل مفاجأة لنا وللنظام العسكري، دفعه للتراجع عن سياساته الخاصة بهدم البيوت، والتساهل في عملية جمع الغرامات من المنازل التي يقول إنها بنيت بالمخالفة للقانون، وتخلي السيسي عن خطابه الإستعلائي، بعد أن كان يطلب من وزرائه أن يواصلوا رفع أسعار الخدمات بدون خوف أو هلع. وهو الذي هدد قبل أيام من هذا الحراك بأنه سيرسل الجيش للقرى للإبادة، قالها بدون أن يهتز له رمش، وتم بالفعل تنفيذ أوامره، بالهدم والإزالة بواسطة قوات الجيش، التي كان يخيفها بفكرة نزول البديل!
وهذا الحراك بدأ بعشرات ثم تحول إلى مئات، وفي الكثير من المحافظات، ولم يلفت انتباه القوم في «بي بي سي» فيقوموا بتغطية هذا الحراك، ولو بالتهوين منه، لكن اللافت هو التجاهل التام، له وكأنه لم يحدث، وكأننا أمام بث مشترك مع قناة «النيل للأخبار»!
التواطؤ
وربما يقول أحدهم لم يكن شيء هناك، وأن قنوات المعارضة في تركيا أو «الجزيرة» ضخمت من الموضوع، الذي ليس له أساس، وأن هذه القنوات صنعت من «الحبة قبة» لا بأس، أين هذه الحبة؟!
الانكار كان جائزاً في اليوم الأول، لكن حتى الإعلام المصري الذي أنكر في البداية عاد ليعترف، وقال عمرو أديب إنه لم ينكر هذا الحراك، فإذا كان إعلامي مصري، يعمل في قناة سعودية حليفة يعترف بوجود هذه المظاهرات، فلماذا تكون «بي بي سي» ملكية أكثر من «أم بي سي مصر»؟!
وقد بدأ الاعتراف الحكومي بعد ذلك بالتدريج، فتم القبض على قرابة الألف معتقل، نشر المحامي خالد علي أسماءهم على صفحته، كما أن النيابة العامة أذاعت خبر الافراج عن بعضهم، فأين قناة «النيل للأخبار»؟ أقصد «بي بي سي»!
كان يمكن لمثلي أن يتعامل مع الأمر بحسن نية وسلامة طوية، وأنه تقدير خاطئ للموقف نقع فيها جميعنا عند تقدير بعض الأحداث المفاجئة، لكن وجود عنوان مضلل لتقرير نشر على الموقع الإلكتروني للقناة، يحول دون التعامل بحسن النوايا. فالعنوان هو عن فشل الدعوة للتظاهر. هكذا، وجاء المتن نقلاً عن مقالات لكتاب مصريين في الصحف الحكومية، وذلك قبل موعد الحراك، ليذكرني بجريدة «المساء» المصرية، في يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1981، فلأن الصحف المسائية تطبع في مصر صباحاً، فقد نشرت «المساء» أن الرئيس السادات، وبعد انتهاء العرض العسكري، وضع إكليلا من الزهور على قبر الجندي المجهول وصافح كبار رجال الدولة، ثم غادر إلى منزله، وما كادت الجريدة تنزل للأسواق حتى أذيع خبر اغتيال السادات، فكان القرار هو مصادرة العدد من عند الباعة في عموم القطر المصري!
لا أعرف إن كان هذا التقرير خاصاً للموقع الإلكتروني أم أذاعته ال»بي بي سي» راديو وقناة؟ لكن نشره في صيغة العنوان المضلل، هو تعبير عن موقف، روعي أن يكون على مقاس «النيل للأخبار»!
نعلم أن السلطات المصرية تقيد عمل الصحافيين الأجانب، وقد تم القبض على صحافية تعمل في موقع إلكتروني، كانت في طريقها إلى منزل الشهيد عويس الراوي، لبحث ملابسات عملية قتله على يد ضابط شرطة، وتم حبسها خمسة عشر يوماً بقرار من النيابة العامة، ولأن الأمر كان مضحكاً أن تحاكم صحافية بتهمة الشروع بالقيام بمهمة صحافية، فكانت الاتهامات هي باقة الاتهامات المعروفة والمكررة، الانتماء لجماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة عبر منصات التواصل، لكن تدخل النائب العام وأفرج عنها غير منتظراً لانتهاء مدة الحبس أو موعد التجديد، وكان الأولى أن يكون المقبوض عليها هي مراسلة الـ «بي بي سي» بدلاً من الاكتفاء بتقرير مكتبي بعنوان مضلل، فما قيمة المكاتب التي تفتحها الفضائيات في العواصم المختلفة، إذا لم تكن مهتمة بتغطية الأحداث؟!
تبدو لي أحياناً أن هذه المكاتب، أقرب إلى سفارات كثير من البلدان، التي تتوسع في فتحها بدون حاجة لذلك، ووفق نظرية السيادة، ومصر مثلاً لديها سفارات في كل أنحاء العالم، وفي دول لا وجود لها على الخريطة أو لا تُرى بالعين المجردة، ولا يوجد فيها مصريون أو تبادل تجاري بين البلدين، وهنا لا أقصد «بي بي سي» وحدها، والتي تبادل على مكتبها في القاهرة ثلاثة مديرين في فترة وجيزة، أوسطهم كانت في طريقها للتقارب الجيني مع النظام العسكري، وشوهدت في آخر أعمالها في مقدمة الصفوف بحضرة عبد الفتاح السيسي، ووقفت لتسأل فإذا بالسؤال على قواعد الأداء المهني للبليغ محمد العرب، مراسل قناة «العربية» في صحراء مأرب!
لكن القدر لم يمهلها، فعادت إلى لندن، فلو استمرت لنافست لميس الحديدي في الحظ! فقد عادت لميس في الأسبوع الماضي لتطل عبر قناة «أون» بعد سنوات من الإبعاد إنهم في حاجة إليها بعد انصراف المشاهدين لقنوات تركيا.
فياما جاب الغراب لأمه!
وسوم: العدد 898