محمد صلى الله عليه وسلم
لهذه الكلمات وقع خاص، وإيقاع متميز، وقعٌ يحدث مرَّة واحدة في عمر الكون والتاريخ والحياة لا يتكرَّر، ولا يتشابه، لا يمكن الوصول إلى ذروة محتواه وإعجازه إيقاع يتخلَّل الوجود منذ كان كامنًا في غيبٍ لا تُفكُّ رموزُه أو تتبين زواياه، إيقاع يلم الوجود والموجود في حلَّة من بهاء ونماء، واخضرار وحياة، ويبقى كما الوقع، بعيدًا عن أن يشبه شيئًا أو يشبهه شيءٌ، وكذلك يَدخل فيه استحالة إدراك ذروة محتواه وإعجازه، وبين الاستحالة والواقع انبثق الضياء؛ ليكون حالة خاصة في عمر الأرض المحدود، والخلود الذي ينتظر في رحم غيبٍ عرَفناه وصفًا، واعتقَدناه إيمانًا.
من هنا نستطيع أن نقرر حقيقة لا أن ندَّعيَها؛ لأن الحقائق وإن حوربَت من كمٍّ هائل من الناس فإنها تَبقى حقيقة، تمامًا كالشمس حين تشد أوارها على ظهيرة؛ لتسطع فتبهر العقول والعيون والإحساسات والمشاعر، حقيقة أن لهذه الكلمات وقارًا وجلالاً وعظَمة، وفيها سمتُ الكبرياء، وأريحيَّة الإيمان، وشنشنة الفخر والافتخار، والعزة والاعتزاز.
ونحن حين نأتي لنُمسك نَواصي الأقلام، وهامات اللغة، وجِباهَ المفردات، وقِممَ الكلمات؛ لنكتب أو - نحاول أن نكتب - عن شخصية لا تتشابَه مع شخصية أخرى منذ بدءِ الخلق وحتى تمام الساعة، شخصيةٍ ارتبط الإيمان بالخالق بالإيمان بها؛ فإننا نشعر بالوجَل، بالرهبة، بجلال اللَّحظات وسموِّها، وتحليقها إلى مرافئَ علويَّة في الروح المطمئنَّة، الراضية المرضية، وإلى موانئَ من الإيمان الذي يَرفعنا إلى حالةِ هُيام توقظ الشوق، وتستوقد الاشتياق، تمامًا كدعاءٍ استجيب في التوِّ واللحظة، وكصلاةِ الفجر المتعمِّقة بالوجل، والدموع المختلطة بصياح الدِّيَكة وهَديل الحمام وهما يسبِّحان بحمد الله.
ونحن نكتب، فهذا لا يعني أنَّنا نقدم اعترافًا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل نأتي إلى ذواتنا الخاوية لنعترف بها؛ فهو صلى الله عليه وسلم فوق الحاجةِ إلى اعترافنا به؛ لأننا منه نستمدُّ اعترافنا بأنفسنا، وعندما نصل إلى هذا نكون فعلاً شيئًا ضِمن حسابات الوجود والعدم.
ولن نجرؤ أن ندَّعي - أو حتى نحاول الادِّعاء - بأننا نكتب لنوفِّيه حقَّه؛ فنحن نستوفي حقَّنا بالانتساب إليه بفخرٍ لا يُضاهيه فخر، فخر حبه طوعًا وكرهًا، حبًّا يَفوق حبَّنا للجنَّة وما فيها؛ فهو صلى الله عليه وسلم حبيبُ القادر العزيز المتكبِّر، الخالق الرازق العادل، وهو سبحانه مَن أتمَّ خَلْقه وخلَقه، وانتقاه واصطفاه، وغسله وطهره، وحمَّله أمانةَ رسالته، عبر ملائكته المطهَّرة بخلقها من نورٍ وضَّاء.
أوَليس مِن الحقيقة - بل عين الحقيقة - أن نقول بفَمٍ ممتلئ بالعزة والفخار: إننا إنما نكتب بحثًا عن أنفسنا، عن قيمتها وجوهرها، من خلال الاتِّصال بسيرته التي تتفرَّد وتتميز بأنها نورُ الهداية لكلِّ مخلوق وُجد أو سيوجد، وكل مخلوق نعرف أو لا نعرف؟!
محمد صلى الله عليه وسلم! خُلق من حمأٍ مسنون، لكنه الحمأ المسنون بالتفرُّد والعصمة، بالرسالة التي جاءت لِتَخرج من خصوصيتها بقوم أو شعبٍ إلى الخلق برمَّتهم؛ البيض والسود والصفر، دونما استثناءٍ لعِرق أو لون أو أصل، وليكون المؤمنُ هو أرقى وأعلى منزلةً عند الله جلَّ شأنه من أقرب المقرَّبين إليه صلى الله عليه وسلم، إن لم يتمَثَّل الرسالة التي نقلَت سلمانَ الفارسيَّ من كونه فردًا إلى أن يَدخل آل البيت، وليسجل ذاته بنقلةٍ لم يستطع كثيرٌ من العرب الأقحاح - رغم علوِّ منزلتهم وجاههم ونسبهم - أن يصلوا إليها، هي ذات الرسالة التي جعلَت قدَم ابنِ مسعود رضي الله عنه وأرضاه أثقلَ من جبل أحد، وهي ذاتُ الرسالة التي نقلَت العرب من قاع التمزق والمناحَرة إلى قمة الإيثار في التآخي بين الأوس والخزرج، وهي ذات الرسالة التي خرجَت من جفاف الصحراء مُخْضوضِرَةً لتورق نماءً وحضارة في كلِّ صُقع وحَدب وفجٍّ.
هذا الحبيب المحبوب، صلوات الله وملائكتِه والمؤمنين عليه، المخضَلُّ بالنَّدى الإلهيِّ وشذى الرحمة، هذا العصيُّ على اللغة بكلِّ ما فيها من علوم وجمالٍ وفخامة، غُرَّة الدنيا وناصية الوجود، فيه تجتمع الأشياء كلُّها مرةً واحدة، ورغم اختلافها فإنها تتوحَّد وتندمج في بوتَقة صَهرٍ لا تحتاج إلى حرارةٍ أو لهَب، بل إلى نسيم معبَّأٍ برائحته الفواحة بالرحمة، وبلمساته الفائضة خلقًا وتفردًا وإدهاشًا، هذا الكلام - وإن تخفَّى بجماليات اللغة - فإنه حقيقة أثبتتها الأيام، ليس فقط من خلال البشَر، أو من خلال تضحياتهم التي قدَّموها، بل من خلالهم ومن خلال مخلوقاتٍ لم يُعتقَد قبلاً بأنها ستكون على أبواب التضحية والفداء.
هناك الرمال التي امتصَّت قوائمَ فرَس سُراقة، ووعدٌ كان يتخفَّى برَحِم الغيب؛ كنوز كِسرى، هناك الغمامة التي سارت حيث خُطاه المباركة لتظلِّله من شمس الصحراء اللاهبة واللاهثة، وهناك الأبابيل التي جاءت لِتَكسر الخوف والرُّعب الذي سكَن أهل مكة والعرب، وأيضًا كان الغار الذي يتربَّع في مكان قصي، يبثُّ الهلع والرعب لِيَحتفظ بخصوصيته وسرِّه، والعنكبوت، المخلوق الدَّقيق الضعيف، وبيته الواهي، واليمام الذي هو بلا حولٍ أو قوة، الرقيق الخفيف إلى درجة الطَّراوة التي لا تحتمل التضحية بالعشِّ والبيض إلا بمثل هذه الواقعة.
لم يكن الجمادُ والحيوان والطير هو مَن يَرسُم المعجزاتِ فقط، كان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ينام في فراش الحبيب محمَّد صلى الله عليه وسلم فداءً وتضحية؛ لتتشابك التضحية البشريةُ مع المعجزة الرملية حين خرَج عليه الصلاة والسلام بجملةِ: ((شاهَت الوجوه))، وتعود الملحمة المعجزة لتدخل نُواة الغار وعقل اليمام وقلب العنكبوت، حين مدَّ أبو بكر قدَمه الطاهرة لِتَلقط سمَّ الأفعى، في تعمُّق الألم والخوفِ والخشية على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتتساقط الدموعُ المباركة على وجنتَي الرسول المكرَّم المطهَّر ليصحو فيَمسح بِريقه الطاهرِ مكانَ اللَّدغة، وليعلِنَ لصديقه ورفيق دربه ومؤنس وَحدته نزْعَ الخوف والخشية، وليعمق الاطمئنان والسكينة، بتثبيت حقيقة وجود ثالثٍ يُرافقهما، وأنهما بمعيته وحفظه وقدرته؛ هو الله، مالك الملك، الذي لا شيءَ قبله أو بعده، الواحد الأحد الصمد، المتفرد بكل شيء، والذي إذا أراد أمرًا فإن إرادته تقبع ما بين الكاف والنون، هذا حسَب قدرتنا على الإدراك، لكنها إرادته التي سبقَت الكاف والنون، وسبقَت ما نُدرك وما لا نُدرك.
هناك أيضًا البراق الذي تمكَّن من كسر عوامل الزمان والمكان، قبل أن ندرك أو نتعلم كيف يمكننا أن نكسر شيئًا من عوامل الزمن والمكان، البراق الذي شارك في رحلة الإسراء كمقدِّمة إلى رحلة المعراج، الرحلة التي لا يمكن للبشر حتى بما امتلكوا من علومٍ ومعارفَ أن يتبينوا أو يفقَهوا سرَّها الذي تخطى كل عوامل الهلاك والمتغيرات، التي تسكن الآمادَ التي ندرك ولا ندرك.
في القدس تحديدًا - وأقصد القدسَ وما حولها؛ أكنافَها التي وردَت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم - تحطَّمَت المسلَّمات والبدهيَّات، والحقائقُ والثوابتُ والمتغيرات، تحطَّمَت سنن الكون ونواميس الوجود، وخرجَت المعجزات تَترى وتتواصل وتتابع؛ حيث لا يمكن إيجاد فاصلٍ بين التتابُع والتتالي والتواصل، كانت المعجزة بوصول سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى تراب الأقصى، بهُنيهات مخطوفة من زمنٍ لم يستطع إدراكَ ذاته، أو ما يتلاحق فيه من أحداث، كان الوصولُ من مكة إلى القدس، يحمل في طيَّاته رسالةً هي ضمن المعجزات المتواترة إلى حد التسجُّر!
هنا أثبت الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام رسالة موجزة معجزة - للمسلمين في عصرِه، والعصور التي تَليه - أن القدس هي طريق المؤمنين إلى الدنيا، وهي ذات الطريق إلى السماء، وهي التي يجب حراستُها بمتانة الإيمان، وصَلابة التقوى، وإيثار الإخلاص.
كيف لا وهي التي شهدَت تقاطُرَ الأنبياء والرسل من مكانهم عند الخالق جلَّ في علاه؛ ليشهدوا مع سيد الخلق رحلة إيمان ويقين؟! فبِهِم كانت صلاةٌ اجتمَع بها كلُّ مَن خصَّ الله بمحبته وثقته، فاصطفاهم ليكونوا حمَلَة رسالته وشُرَّاح مقاصده، جميعهم اصطفُّوا بخشوع يذيب الصخر، ويَصهر الحديد والفولاذ، ليصلِّي بهم الحبيب صلاةَ جماعة لم يتشرَّف بها مكانٌ غير المسجد الأقصى، ولم تتشرَّف بها بقعةٌ غير القدس، معجزةٌ من معجزاتٍ تتداخلُ وتتراكَب؛ فالمَسير من مكَّة قِبلةِ الإسلام والمسلمين إلى القدس له معانٍ ودلالات؛ فربُّنا القادرُ العزيز الجبَّار، كان يمكن أن يُتمم عملية المعراج من مكَّة، لكنه سبحانه اختار - واختيار الخالق له دائمًا خصوصية الكمال والتناهي في الكمال - أن تكون الرحلةُ من مكة إلى القدس، ومن القدسِ تبدأ رحلة المعراج، ويعود الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من السماوات إلى القدس، ومن القدس إلى مكة؛ ليَكتَمِل معنى المعجزة التي تضَع القدس والأقصى أمانةً في عنق المسلمين حتى يوم القيامة.
من الأقصى (القدس) بدأَت رحلةُ الوصول إلى السماوات، وهنا يجب أن يُدرك القارئُ معنى الصعود إلى السموات، المعجزة المحشوَّة بالمعجزات، بدأَت بكسر عامل الزمن الذي يحتاج إلى سنينَ ضوئيَّة من أجل اختراق ما نَعلَم من آمادٍ وآفاق وفضاءات، وتعطَّلت نواميس كلِّ هذا من أجل رجُل مصطفًى، عليه أفضل الصلوات والتبريكات، تعطَّل كل شيء احترامًا وتقديرًا وخضوعًا وهيبةً من وقار المتخطِّي بإرادة الخالق لكلِّ تفاصيل المتغيرات بين فضاءٍ وفضاء، وسماءٍ وسماء، وبين ما نُدرك وما لا ندرك، بين المعهود وغير المعهود، بين ما نستطيع أن نصدق، وما نستطيع أن نؤمن ونوقن به، وإن بَدا عصيًّا على التصديق.
الأحداث المتواترة المتلاحقة هي التي تقدِّم الدلالات والبراهين، والحجج والثوابت، وحين بدأَت الرسالة الإسلامية بدأَت برجل واحدٍ كان يتأمَّل في الغار، فقيل له بأمر إلهي: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، وما هي إلا أيام، حتى بدأت الرسالة تخرج من كونها في فردٍ إلى أفراد، ومن جماعةٍ إلى جماعات، ومن شعب إلى شعوب، رغم ما بَدا عليها من وَهن وضعفٍ وقلةِ حيلة؛ فمكة ومَن حولها وقفَت بقَضِّها وقَضيضها لتفتِكَ بالرسالة وحاملِها، وعلى الجانب الآخر كانت حضارتان تتمتَّعان بقوة ضاريةٍ لا يمكن منافستُهما، قوًى تستطيع أن تَئِد أيَّ بعث مناهض لما يَعترض طرُقَهما وعقائدهما، لكن الرسول الذي بُعث أدرك - بأعماقه وواقعِ البصَر والبصيرة، بالمحسوس واللامحسوس - قوةَ الخالق الذي بعَث الملَك ليأمُرَه بالقراءة، فأيقن بتلك القوة وقدرتها، وحمَل اليقين ليَغرسه بقلوب محبِّيه ومُناصريه غرسًا مشبعًا برذاذ التضحية والفداء، فكان أن تحقَّقَت المعجزات.
معجزات الثبات والإيثار والتفاني، فكان لهذه المجموعة الصغيرة العددِ أن تحقق بقلةِ عددها نصرًا خلفَ نصر، وكان للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أن يبعَث برسائل الدولة الإسلامية إلى تلك الحضارات التي لا تُهزَم، رسائلِ سِلم وسلام، عدلٍ وعدالة، فانتشل العرَب من قاع السقوط، من هاوية التناحر، ومن خِضمِّ التخلف والتبعيَّة؛ ليكونوا تاج الوجود وغرة الحياة.
رفعوا من رُعاة، لا يُتقنون غير فنِّ الشعر، والتوزُّع بين حضارتين، إلى سادةٍ يُمكنهم مخاطبةُ الملوك والأباطرة والقياصرة، وانطلقوا من قلب الصَّحراء إلى جِهات الكون بسنوات معدودة؛ ليكونوا رُعاةَ الحق والعدل والعدالة والعلم والنور.
أليست هذه معجزة من معجزات متلاحقة؟! أوليس الانتقالُ من الصِّفر خلال سنوات معدودة - بفضل رسالة ابتدأَت برجل واحد - إلى المئة معجزةً تثبت معنى الإيمان واليقين بتلك الرسالة؟!
القرآن الكريم - بوجوده كما نزَل مِن عند الخالق، بما يتضمَّن من معجزات تُثبت عدمَ تغييره وتحويره - معجزةُ المعجزات؛ فها هو الإعجاز الرقمي، والإعجاز الحرفي، وإعجاز الجُمل والمفرَدات، والكلمات بطريقة تكرُّرها وعدد تكرُّرها وتوزيعها في الكتاب المكنون، تُثبت لكلِّ عاقل عالم، يتَّخذ العقل نبراسًا والعِلمَ محكًّا وفاحصًا أن المعجزة الخالدة التي تعهَّد الله جل شأنه بحمايتها، بقيَت مترفِّعة عن أن يستطيع فردٌ أو جماعة أو أمَّة أو أممٌ مجتمعة أن تمسَّ معجزةَ حفظها، كما تنزلت لتبقى برقًا لامعًا، يوقظ الحدس ويستفز الأيمان ويشعل اليقين.
محمد عليه الصلاة والسلام ليس هدفًا للحاقدين المعتوهين في الوقت الحاضر فقط، بل كان منذ بعثته هدفَ الناقصين قدرًا ومقدارًا، المعبَّئين جهلاً وحقدًا، وضغينة وضعَةً وحقارة، قيل عنه ما قيل، لكن رسالته التي حملها أكملَت شوطها في شقِّ الحياة، دخلَت عروقَ الصخر والصَّلد والجلاميد، فأنبتَت وأزهرَت، ووزعَت نسائمها على الخلق.
نسمات متنقِّلة في الصين، في الأندلس، في روما وفارس، في السند والهند، حتى لم يتبقَّ مكانٌ على الأرض لا يُذكَر فيه اسمُ الخالقِ ورسولِه.
نحن لا ندافع عن محمد صلى الله عليه وسلم اختيارًا فقط، لكننا ندافع عنه حبًّا وولهًا ويقينًا، ولا نَفديه بشيء مما نملك، بل نفديه بكلِّ ما نملك؛ حتى الروح، ولو كان لنا أن نُبعث مائةَ مليون مرَّة أو ما يَزيد لفَديناه مائة مليون وما يَزيد على ذلك.
يحاول صِغار الهمة وفاقدي الشرف والمروءة دائمًا البحثَ عن عظماء لِينالوا من سِيَرهم؛ كي يثبتوا للنقص الساكن فيهم أنهم شيء، لكن يَبقى العظماء في مكانتهم، وينحدر الصِّغار صاغرين.
محمد عليه الصلاة ليس عظيمًا من العظماء، بل هو سيدُ العظَمة التي تَستمدُّ قيمتها من عظمة الله، فعظَمتُه لم تأتِ من أرض أو من محدودِ صفات، بل من مُطلَق لا يحدُّه شيء أو عقلٌ أو إدراك، هي عظَمة مستمدَّة من عظمة الخالق وملائكته وكتابه، وهي عظمة نستخدمها على سبيل المشاركة والمشاكلة اللفظيَّة لما يَستطيع عقلُنا إدراكه.
لكنَّها في حقيقتها عظمةٌ لا يستطيع إدراكُنا البشريُّ سبرَ أغوارها، أو تحسُّس عمقِها، لكننا بما نَحمل من حبٍّ لرسولنا عليه الصلاة والسلام، نستطيع أن نستشعر نَسائمها؛ مما يؤهِّلنا للالتِصاق بسيرته التصاقَ الحياة بالماء.
كثيرةٌ هي التفاصيل الدقيقة التي تَحمل في طِيَّاتها معجزاتٍ تتناسل وتتوالَد معجزات، ولو أردنا الاسترسالَ في تفكيك التفاصيل، وما تحوي من معجزاتٍ وأخلاق وقيَم، لأفنَينا أعمارًا فوق أعمارنا، لكننا نكتفي بما لا يُختلَف عليه، وهو أن محمدًا سيد الخلق وسيد الرسل والأنبياء، أذلَّ بتواضعه وعِظَمِ خلقه أممًا وحضاراتٍ، ولا يزال يُذل أممًا وحضارات بذات التواضعِ وذات الخلق.
أنتألَّم حين يُمسُّ سيدنا؟ نعم، وأيُّ ألم! لكنه ليس ألَمَ العاجزين عن نُصرته، بل ألم الضَّلال الذي يعيشه مَن يمسُّوه! فنحن بقدر الألم الذي يَسكُننا - حين تُمسُّ سيرته العطرة، أو شخصُه المبارك - نُشفق على أولئك الذين يحاولون النَّيل مما لا يمكن النَّيل منه، وبنفس اللحظة نَنظر إليهم وإلى حضارتهم وكلِّ مؤسساتهم نظرةَ إشفاق وحسرةٍ لما يعتقدون أنَّهم وصَلوا إليه من حريةِ فكر وتعبير.
نحن - وليعلَم العالَم من قاصيه إلى دانيه، من أعلاه وأسفلِه - نفخر فخرًا لا يصل إليه فخرٌ أو مجدٌ أو جاه، بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونُعلن هذا الفخر ونحن محشوُّون بالفخر والعزة والأنَفة، وبأفضلية فَخرنا على أيِّ فخر منذ بَدء الخلق وحتى قيامِ الساعة.
هذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي أنبأَنا بدخول امرأةٍ النارَ بهرَّة، ودخول مَن سقى الكلب اللاهث عطشًا الجنة، محمدٌ الذي انفطرَ قلبُه على أم طائر فُجعت بابنها، وهو الذي قال يومَ امتلك أمر مكة وزِمامَها: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء))، وهو الذي تورَّمَت قدَماه سجودًا وركوعًا مع علمِه بما غُفر له مما تقدَّم وتأخَّر، فكان جوابه: ((ألا أكون عبدًا شكورًا؟!))، هو الذي أوصانا بالحيوان مِثلما أوصانا بالإنسان، فعلَّمنا بأنَّ الرحمة والرأفة تاجُ الخلق ودرَّة الصفات.
نحن نحبُّه حبًّا لا يشبه أيَّ حب، ونتبعه اتباعًا لا يشبهُه اتباع، وسنَبقى نحبه ونتبعه، ونفديه ونفتديه بآبائنا وأمَّهاتنا وفلذات أكبادنا وأرواحنا، دون أيِّ شعور بحرج أو ندمٍ أو حياء، بل بعزيمة الإيمان واليقين، والثبات والوفاء، فهل يملك غيرُنا شرفًا مثل هذا الشرف؟! وهل يملك غيرنا رِفعةً مثل هذه الرفعة؟!
وسوم: العدد 900