هدمُ الباطِلِ وبناءُ الحقِّ (سورة الشعراء)
يكلف الله تعالى سيدنا موسى وهو عائد إلى مصر بعد غياب استمر في مديَن عشر سنوات هارباً من ظلم فرعون أن يقف في وجه الظالم دون خوف ولا وجل، فيعلن كلمة التوحيد أمام أعتى عُتاة عصره وأن يطالب بحرية قومِه المسترقين في مصر ليعودوا من حيث اتوا ، فأبدى موسى عليه السلام عذره ، لقد قتل منهم قبطياً وهرب ، كما أنه يضيق صدره ولا ينطلق لسانه ، ويحتاج أخاً صدوقاً يعينه في رسالته ويحمل معه أمانة الدعوة ، فيجيبه سبحانه إلى ما طلب ، فالمهمة كبيرة تحتاج الدعم والتخطيط السليم والمساعد الأمين.
ويلتقي الإيمانُ - متمثلاً بموسى وأخيه- والكفرُ يحمله متألّه مصر المتجبّر، وما إن يعرض موسى مهمته ورسالته حتى يسخر منه فرعون أمام حاشيته الخانعة الذليلة ، كيف تدّعي ما ليس لك؟ وقد ربّيناك بيننا وشربت من لباننا ،وكنت واحداً منّا ،فاجترأت علينا وكفرت بنعمتنا عليك ، إن من يدّعي الطهر والنور لا يكون قاتلاً ، وقد فعلتَ ذلك وأنت كافرٌ، فأنّى لك هذه الهداية الكاذبة؟ وظنّ فرعونُ أنه بهذا الزخم من الادّعاء والهجوم المباغت يُسكت موسى عليه السلام، ويحرجهُ فيربح الجولة من أولها دون عناء.
لم ينكر موسى عليه السلامُ انه قتل القبطي خطأ وضل في عمله هذا عن الصواب، لكنّه لم يكن كافرا، إنّه استغفر ربه وأناب من فَعلته تلك ،فغفرها له ، حين فعل هذا خافهم ، لقد أرادوا الثأر للقبطي دون المحاكمة وتجلية الأمور، لقد عزموا على قتله، فانطلق إلى مدين طريداً متخفّياً ، وهناك حيث الحرية والأمان أسس أسرة طيبة وحين آذن بالعودة إلى مصراختاره الله تعالى رسولاً إلى فرعون يدعوه إلى الله وإلى معاملة قوم موسى بإنسانية، يختارون ما يرونه مناسباً لحياتهم دون اضطهاد وتعسّف،والرسالة تفضُّلٌ من الله على بعض عباده يدعون الناس إلى العبادة الحقة ، فليس من إله يستحق العبادة سوى الله جلَّ جلالُه.
أعلن موسى عليه السلامُ أمام فرعون أنه فرَّ منهم حين أزمعوا قتله دون روية ومحاكمة ، قتل موسى القبطيّ خطأ دون قصد فجعلوا من خطئه هذا سبباً لقتله، ونسوا أن فرعون وعلى مدى عشرات السنين يقتل آلاف الأطفال لأنه هكذا أراد. وكم صدق الشاعر في قوله يصف فداحة إجرام الحاكم الظالم حين يرى نفسه إلهاً يفعل ما يشاء:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تُغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
هذا ما يفعله الطغاة في كل زمان ومكان، فهم في نفسياتهم المعقدة وأعمالهم الظالمة وتصرفاتهم الإجرامية المقيتة نسخة واحدة. يستعبدون الأمم والشعوب ويقودونهم قطعانَ ماشية ليس أكثر، يفعلون بهم ما يشاءون. وفي الطريق كلَّمه اللهُ تعالى وجعله رسولاً وأيّده بأخيه ، والأخ الصادق المؤمن خير مؤيد ومعين.
وترى كبرياء فرعون وصلَفَه حين يسأل موسى عليه السلام ( وما ربُّ العالمين؟) بصيغة غير العاقل، وكان أولى أن يقول: ومن ربُّ العالمين ، فمنْ للعاقل، فهو بقولِ (ما) يتجاهل المدعوّ إليه إن لم نقل يُسيء أدبه، فلم يُعِرْ موسى هذا التجاهل وتلك الصفاقة اهتماماً ليُجيب إجابةً تصفع المتجبر وتسلبه ادِّعاءه للألوهية حين قال: ( ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) فإذا كان الله تعالى ربَّ السموات ، وربَّ الأرض ،وربّ ما بينهما من شموس ونجوم وكواكب، فماذا بقي لفرعون؟! والتفت إلى الملأ يحرك فيهم نوازع الإيمان ، فيقول لهم إن كنتم تريدون الإيمان الصحيح فآمنوا بإلهي العظيم.
وهنا يشعر فرعون بضعفه فيستعين بمن حوله: ( ألا تستمعون) يطلب هذا الإله الضعيف من عبيده أن يدعموه ، ويحرِّضهم على النبي موسى، هيا ردّوا عليه. فلا يدع لهم موسى عليه السلام فرصة للحديث إنما يُعرِّفهم بربهم وربِّ آبائهم وأجدادهم، يريد سيدنا موسى أن ينفض غبار الجهل عنهم فيفكروا تفكيراً سليماً يعرفون به ربهم الذي خلقهم وآباءهم الأولين.
وترى فرعونَ بذكاء خبيث ينقل المرمى إلى أتباعه ، فهو إله! يعلم الحقيقة ، وموسى أرسِل إليهم ليس إليه لينفضّوا عن معبودهم فرعون،فيقول ( إن رسولكم الذي اُرسل إليكم لمجنون) فإياكم أن تضعفوا فتؤمنوا به، فهو مجنون لا يدري ما يقول ، ومن طبيعة المكذبين أنهم يرمون الأنبياء والمصلحين بالجنون تارة وبالكذب تارة أخرى بالسحر ثالثة . ولا يقدر موسى عليه السلام وهو بينهم وفي قبضتهم أن يرد ردّاً جابهاً صريحاً فيرد الصاع صاعين بأسلوب التعريض وهو اقوى وأبلغ من التصريح في كثير من المواقف( ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) ،
حاصرهم سيدنا موسى وضيّق عليهم الخناق، ففي الاية الأولى وصف اللهَ تعالى بأنه رب السموات والارض وما بينهما، وهنا أكد أنه سبحانه ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما ،فأحاط بكل شيء ومن جميع الأطراف ، ثم عرّض ولم يصرِّح حين وصفهم بالجنون معنىً لا لفظاً إذ قال: ( إن كنتم تعقلون) ومن لا يعقل مجنون. والتعريض – حقيقة- اتهامٌ من ناحية ودعوة إلى العقلانية من ناحية أخرى، وهذا ما يريده الداعية " هدمُ الباطل، وبناءُ الحق" .
لما رأى فرعون أن الحوار يميل إلى كفة موسى عليه السلام هدّد وتوعّد -كعادة الظلَمة المستبدّين- فالتغييبُ في السجون والعذاب المصاحب له وسيلتهم إلى قهر البشر والتحكّم فيهم، وقد صرّح فرعونُ بأن مخالفيه يقبعون في السجون وينالون العذاب الشديد( لئن اخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين) ولم يقل لأسجُنَنّك ، فلن تكون وحدك ، فالسجن مليء بأمثالك ، وهذا تهديد شديد يمثل ذروة غضب فرعون، ووهدَةَ حواره الضعيف .
لم يكن سيدنا موسى لِيبدأ حواره بالمعجزات ، إنه يريد أن يؤمن فرعونُ وملؤه بالتفكيرالمنطقي والقلب الحي ، فالإيمان القلبيُّ العقليُّ أثبَتُ وأقوى وأدْومُ ،وما المجزات إلّا تأكيدٌ لمن آمن، وحجّة على من كفر، وسلاح رادع بيد النبيِّ الرسول موسى عليه السلام يمنع أذى فرعون وقومه.
إن موسى عليه السلام حين رأى مجال الحوار مسدوداً وباب التهديد مفتوحاً أظهر معجزته (أوَلو جئتك بشيء مبين؟) فموسى عليه السلام حتى هذه اللحظة كان يرجو منه ومن أتباعه الإيمان القوي دون معجزات ، ولكنْ لا بدّ مما ليس منه بُدٌّ.
ظنّ فرعون أنه ملك زمام الأمر حين هدد وتوعّد ، وأن موسى استسلم له، فلما قال له( أوَلو جئتك بشي مبين ) قال مستخفاً به : (فأتِ به إن كنتَ من الصادقين) وكأنني به كان واقفاً مستوفزاً فلما شعر بعد تهديده أنه انتصر جلس وسخر من موسى : ماذا سيفعل هذا الرجل وقد وضعته بين الإيمان بي والتذلل لعظمتي أوالتغييب في السجن. وكلمة( إن كنت من الصادقين) في هذا الموقف ليس شرطاً ،إنما هو شكٌّ بصدق موسى واتهامٌ له بالكذب . ولم يكن يتوقع انقلاب السحر على الساحر.
والقصة معروفة، ألقى موسى عصاه، فتحولت ثعباناً ضخماً حقيقياً ، وأخرج يده فإذا هي بيضاء كالثلج تُبهِر الناظرين
وتناسى فرعون وملؤه سجن موسى فالامر خطير، إنه تحدٍّ قويٌّ يتعرّض له فرعون، قد يزلزل عرشه،فلا بد من اتهامه بالسحر والشعوذة ،
وفي زمن فرعون لم يكتشف الأعداء تهمة ( الإرهاب) يلصقونها بالمسلمين ، ولا ( الرجعية) ولا ( العمالة للغرب) وقد تبيّن منذ زمن طويل عمالة فراعنة عصرنا للعدو ولكلِّ منقصة ورذيلة، فافتنّوا بإلصاق ما يرونه نقيصة مناسبة وغير مناسبة للإسلام وأهله ، ..(والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)
وسوم: العدد 900