أكاديمية بناء لإعداد العلماء تحيي فكرة المدارس النظامية
إن الأمة التي تريد الصمود والبقاء في وجه العواصف والأعاصير والزلازل (الداخلية، والخارجية)؛ لا بد وأن تحمي ذاتها وهُويتها وتاريخها ومجدها ورجالاتِها وتراثها... بسياج متين من الحراسة، وكل أمةٍ بخير ما التصقت بتاريخها واستوعبته، واستلهمت منه ما يبقيها في ميدان المنافسة الحضارية... وتتلاشى الأمة وتضمحلّ حين ترى أن معين فخرها واعتزازها قد نضب... فحين تبتعد الأمة عن تاريخها وحضارتها تصبح كالأثر في المتحف، يدل على مُلك بائد وحضارة منقرضة.
نشاهد في هذه الأيام مسلسل نهضة السلاجقة، وهو مسلسل تركي يسلط الضوء على حقبة حرجة من تاريخنا التليد، يُظهر كيف كانت الأمة تتعافى من سقامها وتتخلص من هيمنة الباطنيين على مفاصل الحكم شيئا فشيئا؟!
كما يُظهر المسلسل؛ العلاقة الراشدة بين (الحاكم والعالم) وقد تجلّت في أبهى صورها، فكان السلطان آنذاك يدور في فلك العلماء ويقدرهم قدرهم. حتى أخذ العالم مكانته المستحقة في التوجيه والإرشاد ومن ثَم تحقق الرشد في الحكم والتمكين في الأرض، وازدهرت العلوم بكافة أشكالها وحظيت المدارس والمحافل العلمية بالعناية الكبيرة والرعاية المطلوبة...
فمؤسسات التربية والتعليم كما هو معلوم؛ هي الركيزة الأساسية لكل حضارة ولكل نهضة، فهي التي تحفظ للأمة هُويتها ومكانتها وتدفع عنها شرّ المتربصين بها من الداخل والخارج.
ومن أهم تلك المحافل؛ (المدارس النظامية) ذات الأثر الكبير في تاريخ الحضارة الإسلامية. فكانت منارات خرَّجت للعالم مجموعة من خيرة علماء الدين والدنيا معًا.
المدارس النظامية:
هي كليات تعليمية تنسب إلى مؤسسها الوزير الصالح نظام الملك أحد أشهر أعلام الدولة السلجوقية، وهو الوزير الحسن بن علي بن إسحاق أبو على، وزير للملك ألب أرسلان، وولده ملكشاه، تسعا وعشرين سنة من مواليد طوس بخراسان كان من خِيار الوزراء اعتمد عليه ألب أرسلان في الوزارة، وكان عالمًا عادلاً حليمًا كثير العفو وكان مجلسه حافلا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح، وقد اشتهر ببناء المدارس في البلاد وخصص لها الكثير من النفقات.
تعد المدارس النظامية في بغداد أول مؤسسة تعليمية تقدّم العلوم بطريقة متكاملة سواء منها علوم الدين والعربية، أو العلوم العقلية والتطبيقية كالطب والصيدلة والفلك والهندسة، حيث يجتمع الأساتذة والطلاب في فصولها وتقدم لهم كل ما يلزم للتعليم وطلب العلم، فلم يسبق أحد إلى مثل هذا النمط من التعليم (فيما أعلم)، وتعد أول مدارس عرفها التاريخ تعطي أجورًا مرتبة مقابل التعليم، ويقوم على التعليم فيها أساتذة ونواب لهم، ومعيدين للدروس وتنظم المدرسة فصولا دراسية، وسكنا للأساتذة والطلاب، ومكتبة وإعاشة.
تهدف هذه المدارس إلى:
- تعريف الناس بأحكام الشريعة وذلك من خلال تعليم الطلاب كيفية الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة.
- نشر الفكر السني المعتدل من خلال مواجهة تحديات الفكر المنحرف للمذاهب الشيعية والباطنية المتطرفة، ويعمل على تقليص نفوذها عن طريق إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة.
- توفير أجواء علمية جادة للباحثين والمتخصصين كما تهدف المدرسة إلى توفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا، ويُؤلفوا، فيُضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة.
- العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فقد كانت هذه المدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة.
عوامل نجاح المدارس النظامية
- الدعم السخي من الدولة السلجوقية: حيث جاءت المدرسة النظامية لتلبي تطلعات المجتمعات الإسلامية التي كانت تسعى لإقامة حركة نهضة علمية ضمن حاضنة إسلامية.
- التوزيع الجغرافي: حيث اختار نظام الملك مواقع مدارسه بعناية فائقة، بحيث تكون في العواصم والمدن ذات الثقل السكاني والتأثير، وهذا يضمن تأثيرها بشكل أكبر
- الدقة في اختيار المعلمين والأساتذة: بحيث كانوا أعلام عصرهم في العلوم الشرعية.
- تحدد المنهج الدراسي بما يناسب متطلبات العصر: وقد كان لتراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد أكبر الأثر على تلك المدارس.
- توفير الإمكانات المادية: فلم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة.
أشهر علماء وخريجي المدارس النظامية:
- العالم أبو اسحق الشيرازي شيخ الشافعية.
- الامام أبو حامد الغزالي أحد أشهر مدرسي وعلماء المدارس النظامية.
- عبد الملك الجويني الملقب بإمام الحرمين ويعتبر من أبرز علماء العصر السلجوقي.
- العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك.
- ابن الهيثم علي الحسن بن الهيثم عالم موسوعي عربي مسلم قدم إسهامات كبيرة علمية والعديد من المؤلفات والمكتشفات.
- شيخ الإسلام ابن الجوزي فقيه حنبلي محدث ومؤرخ وواعظ ومتكلم.
- عمر الخيام عاش في القرن العاشر الهجري وهو عالم فلك ورياضيات وشاعر مشهور.
- البيروني باحث مسلم ورحالة وفيلسوف وفلكي وجغرافي.
- ابن حوقل كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر من أشهر أعماله صورة الأرض وغيرهم الكثير.
لقد جاءت المدارس النظامية في فترة حرجة من العصور الإسلامية نشطت فيها الكثير من الحركات الباطنية، وقد حملت على عاتقها خدمة الجانب السني.
وبذلك تكون المدارس النظامية قدمت قفزة نوعية وعلمية كبيرة على مستوى الحضارة الإسلامية والعالم، وساهمت بجهد كبير في التصدي للأفكار المنحرفة عبر نشر العلم والتدين السني والوسطى وتحصين الأجيال.
دور أكاديمية بناء لإعداد العلماء:
أما في وقتنا الحالي الذي تموج فيه الحياة بألوان من الفتن، والعديد من المكائد التي تدبر لأمتنا لطمس هويتها، وتجريف عقولها، ومسح ذاكرتها؛ لتنسى الهدف الذي من أجله وجدت، وأنها خير أمة أخرجت للناس، لتخرج البشرية كلها من غياهب الظلمات وتقودها إلى الهداية والنور.
وجد السادة العلماء القائمون على (أكاديمية بناء لإعداد العلماء) أن حدّ الكفاية من علماء الأمة الربانيين لم يتحقق، وأن المرحلة الحالية والقادمة تتطلب العلماء الربانيين والدعاة الصادقين "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أحدا إلا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بالله حسيبا". [سورة الأحزاب: 39].
لذا وجب أن يتفرغ قوم لبناء المستقبل وصناعة الرواحل حملة الرسالة وأصحاب الأمانة لإعادة بناء الأمة، واستعادة مكانتها كي تستطيع القيام بدورها وأداء رسالتها من خلال علماء راسخين وقادة رأي عاملين.
لذلك وضعوا شروطًا للطلاب حتى يتمكنوا من التعلم في الأكاديمية، وفي المقابل قدّمت لهم الكثير من الخدمات!
أما الشروط:
يشترط في الطلاب التفرغ الكامل للدراسة بالأكاديمية والانقطاع لتلقي البرنامج وفق جدول الدراسة المعتمد.
أما الخدمات:
1.توفر الأكاديمية للطالب المعيشة في تركيا شاملة الإقامة والإعاشة مع صرف مبلغ شهري للطالب لإعانته على التفرغ للدراسة
- تعتمد الدراسة في غالب أحوالها على النواحي العملية وإكساب المهارات بالمعايشة والمتابعة العلمية والتربوية المستمرة من خلال مشرفين علميين وتربويين متخصصين ومقيمين إقامة دائمة مع الطلاب.
- تحرص الأكاديمية على حصول طلابها على درجات التخصص الماجستير وكذلك الدكتوراه من خلال معادلة مناهجها أومن خلال جامعات مناظرة.
- تهتم الأكاديمية بإتقان الطالب للغتين على الأقل بجوار لغته الأصلية، وإتقانه لأدوات ووسائل التأثر والتأثير الحديثة
- تعتمد الأكاديمية نظام الإجازة العلمية لكل دورة مستقلة، ويشترط النجاح فيها ليتمكن الطالب من الالتحاق بالمرحلة التي تليها.
- تهتم الأكاديمية بتعميق التوريث العلمي بزيارة كبار علماء الأمة للطلاب ومعايشتهم وإكسابهم الخبرة التربوية والعلمية.
- تقدم خدمات صحية حيث يوفر الأكاديمية رعاية صحية داخل الأكاديمية وذلك دون أدنى رسوم.
- تقدم خدمات ثقافية يوفر الأكاديمية للطلاب إمكانيات ثقافية تشمل مكتبة ثقافية وغيرها الكثير الطيب.
إن الأمة في هذه الفترة العصيبة بمسيس الحاجة إلى هكذا مشاريع من شأنها أن تفعّل طاقات الشباب فتسلحهم بالعلوم والمهارات المطلوبة، وتعدّ البرامج والخطط طويلة المدى لإخراج قادة مجدّدين في علوم الدين والدنيا؛ فهم الركيزة الأساسية للنهوض بالأمة الإسلامية، والارتقاء بها في سائر الأصعدة وكافة الميادين.
أُريد لبناء أن تكون نواة لمشروع حضاري متكامل، وكانت امتدادًا فعليًا للمدارس النظامية، وكان علماؤها يسعون جاهدين لإحياء إرث الجويني، والغزالي، والجوزي، والشيرازي، والعز بن عبد السلام...
ويقومون بدورهم في الصناعة والإعداد والبناء على أتمّ وجه وأكمل صورة.
ولكنها ظلّت مفتقرة إلى التأييد المطلوب، وإلى الداعمين المخلصين أصحاب الهمّ الكبير كأمثال الوزير الصالح نظام الملك (رحمه الله) كي تستأنف مسيرتها المباركة الميمونة...
جزى الله السادة العلماء أصحاب هذا المشروع الحضاري، كل خير على ما بذلوه من وقت وجهد ومال...
سيبقى مشروع بناء؛ مشروع أمة، مثله مثل كثيرٍ من المشاريع المخذولة في عصرنا الحاضر!!!
لقد حاول القائمون عليه أن يسدّوا ثغرًا كان مفتوحًا، وقد يظلّ مفتوحًا مالم تتحرك الأمة بكافة إمكاناتها وطاقاتها لرعاية هكذا مشاريع!!!
وسوم: العدد 906