للأسف.. ربحت الرهان
في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير عام 2016م، اختفى الباحث الإيطالي "جوليو ريجيني" في القاهرة، ثم عثر على جثته المشوّهة في الثالث من شباط/ فبراير. وقيل في بداية الأزمة كلام كثير في إعلام النظام المصري في سبب وفاته، ومن ضمن ما قيل أنه مات في "حادث سيارة".
كانت آثار التعذيب على جثته ترسم ملامح النظام الذي تدعمه إيطاليا وأوروبا كلها. تصاعد الغضب في أوروبا، وبدا المشهد وكأن النظام المصري قد ارتكب الغلطة التي تقصم ظهر البعير.
والحقيقة أن الأنظمة - كلها أو جلّها - تستطيع أن تتجاوز هذه الأحداث "العابرة"، فحياة مواطن حين توضع أمام مليارات الدولارات، لا تهم..
السياسيون في العالم كله - غالبيتهم - مستعدون للتغاضي عن حادث قتل هنا، وعن انتهاكات هناك، أو بضع مجازر هنالك.. في سبيل مكاسب من هذا النوع أو ذاك.
الفارق بين الأنظمة في هذا الأمر طفيف، يعتبر خلافا في "الكمّ"، لا المبدأ!
في ذلك الوقت كتبت مقالة بعنوان "رهان مع رئيس الوزراء الإيطالي"، نشرت هنا في موقع "عربي21"، بتاريخ الثالث عشر من شباط/ فبراير 2016. كانت رسالة موجهة لرئيس الوزراء.. كان اسمه "ماتيو رينزي"، وراهنته على أن دم هذا الشاب الإيطالي النابه سوف يضيع، وقلت إن دعم إيطاليا المطلق للدكتاتورية في مصر لن يتغير بسبب مقتل شخص.. إنه مجرد مواطن!
صحيح أن العلاقات المصرية الإيطالية توترت بعد مقتل "ريجيني"، وغادر السفير الإيطالي القاهرة في نيسان/ أبريل 2016 تنفيذا لقرار استدعائه للتشاور، وظل عاما كاملا خارج البلاد تقريبا، ولكن كل ذلك لم يغير في الأمر شيئا، وظلّ رأيي في ذلك الوقت أن الموضوع ستتم تسويته، وأن الغضب الشعبي سيتم احتواؤه، فالنظام العالمي الجديد ذاك لا مكان فيه للأفراد، والشعوب فيه مستضعفة (كل الشعوب، حتى شعوب العالم الأول).
ومرّت الأيام، وها هي إيطاليا تبيع دم المواطن "جوليو ريجيني"..
* * *
صدر منذ عدة أيام (4 كانون الأول/ ديسمبر 2020) بيان مشترك بين النيابة العامة في روما والنيابة المصرية، ومن الواضح أن بيان "روما" قد كُتِبَ في القاهرة، فأصبحت الاتهامات موجهة لخمسة ضباط في أحد أجهزة الأمن المصرية بصفتهم الفردية، لا بصفتهم موظفين في دولة.
كان واضحا أن الأمر ستتم تسويته منذ شهور، ففي شهر حزيران/ يونيو الماضي وقف السيد "إيراسمو بالأزوتو"، البرلماني الإيطالي ورئيس اللجنة البرلمانية التي تحقق في مقتل الطالب الإيطالي "جوليو ريجيني"، ليطالب رئيس الوزراء "جوزيبي كونتي" بتوضيح حيثيات صفقة سلاح جديدة مع مصر، تتضمن بيع فرقاطتين من طراز "فريم"، وتبلغ قيمتهما 1.2 مليار يورو.
كما دعا النائب ذاته رئيس الوزراء إلى توضيح حيثيات صفقات السلاح الكبيرة مع مصر.
في الوقت نفسه قال والدا الطالب القتيل إن الحكومة الإيطالية خانتهما.
لقد استطاع النظام المصري أن يحتوي الجميع، وما تعجز مصر عن تمويله من صفقات السلاح.. تموّلُهُ الإمارات.. ما تعجز إيطاليا عن فعله في "ليبيا" تفعله المليشيات التي تمولها الإمارات!
* * *
ما الحل؟
هذه ليست مشكلة مصر، وليست مشكلة إيطاليا، إنها مشكلة عالمية إنسانية عامة، ألا وهي انتهازية السياسيين التي تتجاوز كل حقوق للإنسان، وتتسامح في الانتهاكات والمذابح، وتتغاضى عن التهجير القسري، والاضطهاد العنصري، وغيرها من الجرائم.
إذا كان السياسيون يقبلون مقايضة أرواح البشر مقابل مصالح مادية أيا كانت.. فما الحل إذن؟
إن الدولة - أي دولة - هي كيانات ومؤسسات، ولكنها في الوقت نفسه شعب وأمة، فإذا كانت المؤسسات تعمل لمصلحتها منفصلة عن الأمة، فإن واجب الأمة أن تكوّن مؤسساتها الشعبية التي تستطيع أن تواجه بها مؤسسات الدولة.
بل إن الواجب على جميع الشعوب أن تؤسس وتقوّي المؤسسات العالمية التي تعمل من أجل دعم الشعوب كلها للتحرر من كل أشكال العنصرية والاستعباد الذي تتعاون فيه الحكومات تعاونا وثيقا، خصوصا في هذا العصر الذي تتحكم فيه الشركات العابرة للقارات، متعددة الجنسيات، في كل شيء، وكل أحد، حتى أصبح رؤساء الدول مجرد موظفين خاضعين لهذه الكيانات الاقتصادية الكبرى، ومن يواجهها أو يتمرّد عليها يضع مصيره على المحك، بل ربما يضع حياته كلها في مرمى نيران الهلاك.
إن الحل الوحيد هو أن يتحد شرفاء العالم، وأن يتعاونوا من أجل ضبط سلوك السياسيين الانتهازيين الذين لا يبالون إلا بمصالح ضيقة، ويضيعون السلم والأمن العالمي، ويهددون المصالح الحقيقية طويلة الأجل لكل الشعوب.
لقد باعت الحكومة الإيطالية ابنها.. عزائي لأسرته، ولكل أحبابه..
عزائي لذوي المواطنين المصريين الذين قتلتهم السلطات المصرية لكي تلفق لهم تهمة تكوين تشكيل عصابي متخصص في سرقة الأجانب، لكي يتحملوا وزر قتل هذا الشاب الإيطالي.
في يوم قريب بإذن الله سنقيم نصبا تذكاريا للصداقة بين الشعبين المصري والإيطالي، سينقش عليه أسماء من قُتلوا ظلما في هذه القضية؛ الشاب الإيطالي المظلوم، والمواطنين المصريين الذين قتلوا من أجل "تقفيل" ورق القضية..
1- المواطن الإيطالي جوليو ريجيني.
2- المواطن المصري طارق سعد عبد الفتاح.
3- المواطن المصري سعد طارق سعد عبدالفتاح
4- المواطن المصري مصطفى بكر عوض.
5- المواطن المصري صلاح علي سيد.
رحمهم الله جميعا..
وسوم: العدد 906