متى نسدُّ هذه الثغرة؟
من افتتاحية مجلة حضارة الإسلام – العدد التاسع – ذا القعدة 1383هـ -
مَن طالع تاريخ الإسلام، يرى ظاهرة واضحة كل الوضوح، وهي أَنّ الإسلام ما برح يخوض معارك متعددة النواحي، تستهدف القضاء عليه أو تشويهه أو صرف المُسلمِينَ عنه، وهذه المعارك تَتّسِمُ من جهة أعدائه بالدقة والتنظيم والكيد المُحْكَم، كما تتّسمُ من جهة المُسْلمينَ بالبراءة والغفلة عن هذه المؤامرات، والدفاع العفوي دُون إعداد سابق أو هجوم مضاد، ولولا أَنّ الإسلام دين اللهِ الذي تَكَفّلَ بحفظه لكانت بعض مؤامرات أعدائه كافية للقضاء عليه وانمحاء أثره.
ومن الواضح أنّ المؤامرات العدائية للإسلام تلبس في كل عصر لبوسها، فهي حين يكون المُسلمينَ أقوياء تأخذ طريق التهديم الفكري والخلقي والاجتماعي، وحين يكونون ضعفاء تتخذ طريق الحرب والتجمع والإبادة والإفناء، فإذا عَجَزَتْ طريقُ الحرب عن تحقيق أهدافها انقلبت إلى طريق فكري خداع، تستهوي عقول الغافلين أو المغفلين، فينبُت للإسلام في داخل أسواره نابتةٌ تنحرف شيئاً فشيئاً عن عقيدة الإسلام المشرقة المحررة حتى تنتهي إلى عقائد وأفكار أخرى، وتحقق الأهداف التي يسعى إليها أعداؤه من حيث يبدو أنهم لا علاقة لهم بهذا التخريب والتهديم.
إنّ التشكيك في السنّةِ النبويّةِ الصحيحةِ التي أقامت صَرح الفقه الإسلامي العظيم الذي لا تملك أُمّةٌ من أمم الأرض عُشر معشاره، هو مَثَلٌ بارز لمحاولات أعداء الإسلام في القديم والحديث، فقد أخذت هذه المؤامرة طريقها إلى عقول بعض الفِرَق الإسلامية في الماضي والحاضر. إنها مؤامرة لا ريب فيها، فالمُسْتَشْرِقُون اليهود واللاهوتيون المُتَعَصِّبُون يُلِحُّون عليها إلحاحاً شديداً في كل ما يكتبون، وأقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية توجّه أنظارَ طلابها المسلمين إلى هذا الموضوع توجيهاً دقيقاً، وتأبى لأي طالب منهم أن يكون موضوع رسالته الجامعية دحض الافتراءات التي يملؤون بها كتبهم على السنّةِ وَرُواتِهَا، وقد اتصلت بي فتاة ألمانية مسلمة منتسبة إلى قسم الدراسات الإسلامية في جامعة فرانكفورت تطلب إليّ دلالتها على بعض المراجع التي تساعدها في كتابة رسالتها الجامعية التي أصَرَّ رئيس ذلك القسم أن يكون موضوعها "أبو هريرة" وما قيل عن أبي هريرة وما نُسب إليه من الكذب، وما قالته فيه بعض الفرق الإسلامية غير أَهْلِ السنّةِ، وهكذا...
وكان مِمّا أَلَحَّ عليه المُسْتَشْرِقُون في بعض المؤتمرات بحث السنّةِ والوحي النبوي وإخضاعهما لقواعد العلم كما يزعمون، وقد انتهى بعض تلامذتهم إلى إنكار الوحي مصدراً للإسلام واعتبارِ الإسلام أفكاراً إصلاحية من مُحَمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم!..
وحين ألّفَ بعض الجاهلين المغرورين كتاباً عَن السنّةِ ينتهي إلى التشكيك بالسنّةِ كلها ويفيض بالحقد البذيء على أكبر رُواتِهَا من الصحابة وهو أبو هريرة - رضي اللهُ عنه - تلقفت الجهات الأجنبية الاستعمارية هذا الكتاب فبعثت به إلى جميع الجامعات الغربية.
ونَسُوقُ مثلاً آخر على يقظة أعداء الإسلام وإحكام المؤامرات عليه، وهو استغلال الخلاف الذي وقع في صدر الإسلام بين الصحابة - رضوان الله عليهم - حول الخلافة، إِنّ مثْلَه يقع في كل أُمّةٍ وفي كل عصر، ولكنا لَمْ نَرَ أُمّةً من الأمم عُنيتْ بمثل هذا الخلاف أربعة عشر قرناً!..
إن المؤامرة تبدأ من اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ، ثم يتلقفها قادة الفُرْسِ الوَثَنيُّون الذين خَلّصَ الإسلام شعوبهم من حكمهم الظالم وعقيدتهم الوثنية، وفتح عقولها وعيونها لرؤية النور والتعرف إلى الحق، فهؤلاء حين انهزموا أمام كتائب الجيش الإسلامي المنقذ لم يجدوا وسيلة للانتقام من هؤلاء المُحَرِّرين إلا أن يُشَوِّهُوا سُمْعَتَهُم وسيرتهم في بث الأخبار الكاذبة عنهم مِمّا يُزْرِي بمكانتهم، وممّا يَحُطُّ من شأن هذا الدين وحضارته إذ كان هؤلاء حَمَلَتَهُ وقادة جيوشه، وقد انصبّت نقمة أولئك الحاقدين على مفاخر الحضارة الإسلامية عِلْماً وحُكْماً وقيَادَةً، أي على جميع القادة العسكريين الذين خَلّصُوا العراق من حكم الفُرْسِ، وعلى رؤسائهم، وعلى علمائهم الذين نشروا علم الإسلام وشريعته وأدوا أمانة العلم إلى من بعدهم بتجرد لا يعرف أولئك الحاقدون له مثيلاً في تاريخهم أو تاريخ غيرهم.
هذه بعض الأمثلة على يقظة أعدائنا وسهرهم على إحكام المؤامرات على أُمّتنا وشريعتنا وتاريخنا، وغفلتنا نحن عن ذلك كله، وانسياقنا مع الأهواء والعواطف التي يعرف أعداؤنا كيف يُثِيرُونها بيننا في كل عصر بما يلائم روح العصر ومقتضيات مصالح أولئك الأعداء...
تُرى، إلى متى تبقى غفلة أبنائه عن ذلك كله فلا يشعرون بالخطر إلا بعد أن يقع بهم فعلاً، وبعد أن تنهكهم الجهود في دفعه وتقليل أخطاره؟!.
وسوم: العدد 906