أردوغان في كتابه (رؤية للسلام العالمي)
في كتابه (رؤية للسلام العالمي) الذي صدر منذ ٩سنوات، انطلق رجب طيب أردوغان من وعي عميق بحضارة عالمية جديدة، وسرعان ما ترجمها إلى رؤية واضحة لحضارة عالمية جديدة، تتجاور فيها الثقافات دون أن تتنافر، وتتعاون ولا تتعادى، وأوضح أنه لابد لهذه الرؤية أن تبرز القواسم الدينية والإنسانية المشتركة وتغلب المصالح المشتركة بين الشعوب والأمم، وبذلك تفلس نظرية صدام الحضارات ويتم تجفيف منابع الحروب ومحاصرة عوامل الكراهية.
ولكن إلى أي حد نجح أردوغان في ترجمة رؤيته حول التعايش في سياساته التي اتخذها منذ وصوله إلى السلطة إلى يومنا هذا؟ سؤال جدير بالبحث له عن إجابات موضوعية؛ حتى يتم تقويم التجربة الأردوغانية بإنصاف لا يعرف التفريط ولا الإفراط.
وما يهمنا التركيز عليه في هذه العجالة، هو أنه بدأ السعي لتحقيق هذه الغاية العظمى، من خلال تكوين ما يسمى بتحالف الحضارات، وكانت الرافعة الأساسية لهذا المشروع من جهة الغرب هي إسبانيا عبر رئيس حكومتها الذي انسجم كثيرا مع أردوغان من الناحية الشخصية، بجانب استدعاء المكان الجغرافي والمكانة التاريخية للبلدين كرابطين بين أوروبا وكل من آسيا وإفريقيا، هذا بجانب الخلفية الإسلامية لإسبانيا، عندما كانت بلاد الأندلس من أهم صناع الحضارة في العالم خلال بضعة قرون.
لقد بدأ الأمر بمبادرة قام بها رئيسا حكومتي تركيا وإسبانيا، وانطلقت هذه المبادرة من قناعة فكرية بأن صدام الحضارات سيزيد من مواجع العالم وفواجعه، وأن البشرية كلها أبناء عائلة واحدة وأن شعوب العالم جيران في بناية واحدة، وأن العدالة الاجتماعية حق مشروع لكل الشعوب، مع الاعتقاد بأن الاختلاف والتنوع يثري الفكر ويمكنه تعزيز التضامن بين الأمم وتكثيف عوامل التعاون بين الحضارات، وأن معيار السياسة العاقلة هو كسب الأصدقاء وليس صناعة الأعداء.
في كتاب أردوغان آنف الذكر تم الحديث عن هذه الأمور بوضوح تام، وأوضح الأهداف المنشودة من تحالف الحضارات وصولا إلى ما سماها بحضارة عالمية واحدة، وأبان أن مضغة السلام والاستقرار في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص هي النهضة الاقتصادية التي توفر الحياة الكريمة للناس في حدها الأدنى وتجفف منابع الكراهية والحقد بين البشر.
وأظهر في هذا المضمار أهمية مد الجسور بين مختلف الأمم والحضارات، وقدم تركيا كجسر للحضارات في الشرق والغرب، وكنموذج للعالم الأكثر إنسانية والذي يتسلح بالحب، ذلك الحب الذي ينبغي تبادله بين الأمم بدلا من تبادل قذائف الكراهية وتكرر جولات الصراع المدمر وحصد مآسي الحروب المريرة.
وأظهر أردوغان في كتابه البعد الإنساني في التراث الأدبي للحضارتين السلجوقية والعثمانية، ولا سيما في أدبيات مولانا جلال الدين الرومي الذي ظل يطلق صرخاته حول الأخوة الإنسانية بكل الصيغ والأساليب؛ ولذلك أقيم مؤتمر عالمي بهذا الخصوص في رحابه بمدينة قونية، وكذا في أدبيات الشاعر التركي يونس أمره الذي حولته حكومة العدالة والتنمية إلى رمز للثقافة التركية؛ وذلك بتخصيص وقف ومركز بحث باسمه وبناء مراكز ثقافية تركية في عدد من دول العالم باسمه، كما فعلت ألمانيا بتحويل اسم أديبها جوتة إلى عنوان لعدد كبير من المعاهد التي تنشر الثقافة الألمانية في كافة أرجاء العالم.
وقد ختم أردوغان كتابه بالتأكيد على أن تحالف الحضارات هو أمل العالم في السلام والاستقرار والعدل، وأثبت ملحقا للصور التي توثق للفعاليات المحلية والإقليمية والدولية التي حضرها في محاولته لتحقيق هذا الهدف الغائي الكبير.
مما يجدر ذكره في هذا العرض السريع أن هذا الكتاب يُظهر الفرق بين السياسي والمفكر، فكتب رفيق دربه د. داوود أوجلو تتسم بالطابع الفلسفي العميق، بينما كتاب أردوغان يبرز فيه الحس العملي الذي يتسم به الساسة في العادة.
يقع الكتاب في ٣٨٤ صفحة من القطع الكبير، وصدرت ترجمته العربية الأولى في ٢٠١٢ والثانية في ٢٠١٣م. وقد خصص أردوغان الطبعة العربية بمقدمة خاصة بجانب المقدمة العامة، ويبدو منها مدى حبه للعرب وعنايته بإيصال صوته إلى الشباب العربي بصورة خاصة.
وسوم: العدد 909