من أجل استقامة ألسنة الناشئة المتعلمة بلغة الضاد واسترجاع عافيتها التعبيرية
من أجل استقامة ألسنة الناشئة المتعلمة بلغة الضاد واسترجاع عافيتها التعبيرية بها لا مندوحة عن إعادة ربطها بالنصوص العربية الراقية فصاحة وبلاغة
مر زمن طويل على أهل اللسان العربي وهم يخوضون في جدل بيزنطي عقيم لا طائل من ورائه يتعلق باختيار الطريقة المثلى في استعادة تمكن الناشئة المتعلمة من لغتها كما كان سلفها خصوصا وقد أتى زمن عليها طال بسبب تراخي العهد بإجادة التعبير بها نطقا ورسما حتى رانت على الألسنة العجمة والركاكة والعي ، وصار من يجيد الحديث باللسان العربي أعجوبة الزمان .
وبالرغم من حيازة أهل العربية في زماننا هذا ثروة تراثية لغوية هائلة منها بذل في مراكمتها سلفهم الجهود المضنية، فإنهم قد قصرت بهم الهمم عن مجرد التفكير العابر في وجودها، ولم يكلفوا أنفسهم حتى جهد السؤال عنها بلها استعراض نفائسها.
وبحكم خضوعهم لمحتلين غربيين لعقود في العصر الحديث ، وقد دخلوا أرضهم بمشاريع استعمارية ماكرة من ضمنها أو على رأسها صرفهم عن ثروتهم اللغوية النفيسة، وقد خبر نفاستها من اشتغلوا منهم بفحصها بعدما نقل كم هائل منها إلى بلدانهم نهبا وسطوا وسرقة ، وفرضوا عليهم الانتقال من الحديث بلسانهم العربي المبين إلى التحدث بألسنتهم، فأصابتهم بذلك رطانة أبعدتهم عن فصاحة وبلاغة وأناقة لسانهم .
ومع مرور الوقت وقر في أنفسهم أن الوضع الطبيعي والصحيح لسانيا هو أن يميلوا عن لسانهم العربي المبين إلى ألسنة المحتلين بعدما جعلهم هؤلاء يقتنعون بأن سبيل إصابة شيء من حضارة الاحتلال هو محاكاتهم في ألسنتهم والنظر إلى لسانهم العربي بازدراء ،واعتبار الاشتغال به سبيل تخلف عن الركب الحضاري الغربي .
وبسبب هذا الوضع الذي خلفه المحتل الغربي للبلاد العربية ،نشأت ما يسمى باللغة العربية الوسطى ، وهي وسطية بين الفصحى وبين عامياتها والتي تسببت شيوع الصحافة في شيوعها على نطاق واسع حتى وقر في نفوس أجيال متعاقبة أنها الفصحى حقيقة في غياب احتكاك هذه الأجيال بالفصحى الحقيقية من خلال الموروث اللغوي الهائل الذي تجهله جهلا فظيعا . ونشأ عن ذلك دعاة إلى هذه اللغة المسماة وسطى بذريعة تبسيط اللسان العربي، وهي دعوى باطلة لأن اللسان العربي براء من الصعوبة بطبيعة بنيته السهلة اليسيرة بشهادة الله عز وجل الذي أنزل به رسالته الخاتمة للعالمين على اختلاف ألسنتهم ، وما كان لينزلها باللسان العربي لو لم يكن مبينا كما وصفه أو سهلا يسيرا، به سهل وتيسّر وحيه ، وقوله تعالى : (( فاقرءوا ما تيسر من القرآن )) ،وهو خطاب للعالمين، وليس لأمة العرب وحدها لأن القرآن الكريم المنزل باللسان العربي المبين حجة على العالمين ، ولا عذر لمن ادعى صعوبة هذا اللسان والذي أنزله سبحانه وتعالى يقول في هذا الشأن : (( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)) ، ومرجع تيسيره هو نزوله بلسان عربي مبين ميسر للتعلم .
ولقد كان التعامل مع القرآن الكريم أثناء نزوله لا يحتاج من نزل فيهم تعلم اللسان المنزل به وهو لسانهم الذي يتحدثون به فطرة وسجية وسليقة لكن مع البعد عن فترة نزول الوحي ودخول أمم غير عربية في دين الله عز وجل اقتضت الضرورة أن يصير تعليم اللسان العربي أمرا مفروضا لا مندوحة عنه لغير الناطقين به ، فاجتهد العلماء عربهم وعجمهم على تسهيل التمكن من تعلم هذا اللسان بالكشف عن طبيعته انطلاقا من كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم ،وانتهاء إليهما لمعرفة رسالة الله عز وجل الخاتمة للبشرية ، وقد اقتضى ذلك استعراض كلام أهل هذا اللسان قبل نزول الوحي به للاستدلال به على الكشف عن طبيعته ، فكانت المؤلفات التي لا يحصيها عد .
وما عمد بعض خلفاء الأمة الإسلامية إلى علماء لتأديب أبنائهم من خلال احتكاكهم ببيان اللسان العربي إلا لتدارك ما فاتهم من سليقة لغوية مع تراخي الزمن عن فترة تلك السليقة ، وقد وضع لهم أشهرعلماء العربية مختارات من النصوص الشعرية البليغة لتقويم ألسنتهم وتجويد تعابيرهم ، فكانت المفضيات والأصمعيات والأخفشيات ... وغيرها مناهل لناشئة الأمراء وعموم الناشئة المتعلمة .
ولقد ظلت طريقة هؤلاء العلماء سائدة لقرون في تعليم اللسان العربي للناشئة حتى جاء الغزو الغربي الحديث لبلاد العروبة ، فعطلت تلك الطريقة بسبب غزو طرق تعليم ألسنة المحتل للناشئة العربية، وقد مكّن لها بالتضييق على فترات تدريس العربية مقابل التوسيع في فترات تدريس ألسنته ، والتمكين لها بشتى الإغراءات حتى صار من يتحدث بها مقدم ومفضل على من يتحدث باللسان العربي ، وصار معلمو هذا اللسان موضوع تندر وسخرية واستهزاء عند الناشئة المتعلمة مقابل إجلال وإكبار مدرسي ألسنة المحتل الغربي .
ومع مرور الزمن ترسخت لدى العرب فكرة صعوبة اللسان العربي وغرابته وحوشيته فتحاشته الناشئة المتعلمة وأعرضت عنه إعراضا غير جميل ، وحققت بذلك ما تمناه وأراده وخطط له المحتل الغربي ، وتعالت أصوات محسوبة على العروبة ظاهرا ولها باطن غير مصرح به بدعوات تبسيط تعليم اللسان العربي للناشئة المتعلمة ملقية في روعها صعوبته ، وتعفقيده ، و بلغ الأمر حد تطرف بعض تلك الدعوات مطالبة بإحلال تعليم العاميات محل تعليم اللسان العربي الفصيح إلى جانب تعليم ألسنة محتل الأمس الغربي الذي لم ينجل عن البلاد العربية احتلاله الفكري والثقافي رغم رحيله العسكري عنها مع بقاء قواعده فيها شهادة على استمراره .
وصارت كل دعوة إلى العودة بالناشئة المتعلمة إلى مناهل اللسان العربي تحارب حربا شعواء لا هوادة فيها ، وتكال لها التهم بأنها دعوة عصبية وعرقية متخلفة حبيسة التراث اللغوي القديم .
ومعلوم أن الحل لمشكلة الناشئة المتعلمة مع اللسان العربي لا تحل إلا بخلق ألفة بينها وبين هذا التراث اللغوي المغضوب عليه من طرف دعاة الإعراض عنه . ولقد ثبت بالواقع الملموس الذي هو أصح دليل وأقوى حجة أن اعتماد التعليم العتيق في بعض البلاد العربية قد عاد بالناشئة المتعلمة فيه إلى عافيتها اللغوية بعد فساد ألسنتها . ولا بد من تعميم تجربة نمط التعليم العتيق في كل أنماط التعليم، وذلك فيما يخص طريقة تعليم اللسان العربي التي أثبتت جدواها وأتت أكلها لعصور طويلة ، وهذا لا يمنع أن تتعايش هذه الطريقة مع طرق التعليم الأخرى التي بها يتوصل إلى تعليم الناشئة ألسنة أخرى بطرق تعليم أهلها لها.
ولقد قيض الله تعالى لهذه الناشئة من أهل العلم والخبرة باللسان العربي وبطرق تعليمه لهم ما يمكنها من استعادة عافيتها اللسانية إذا ما استجابت الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم لدعوات هؤلاء العلماء والخبراء الأجلاء ، وأخذت بمشورتهم ونصحهم في تلقين اللسان العربي بأمثل الطرق وأيسرها وأقلها جهدا لرسوخ أقدامهم في العلم بها عوض إضاعة الوقت والجهد في طرق قد ثبت فشلها ، ونطق به ما بالناشئة المتعلمة من عيّ لغوي وركاكة وعجمة في التعبير لفظا ونطقا .
ونأمل أن تغلّب الجهة المسؤولة عن التربية والتعليم الحكمة على اللامبالاة في أمر تعليم اللسان العربي للناشئة المتعلمة ، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية والخطورة ، وفي ذلك قطع الطريق على كل كيد يكاد لهذا اللسان من طرف خصومه من ظهر منهم ومن خفي ، والله الموفق والمعين .
وسوم: العدد 913