صناعة المثقف الاستعمالي!
ارتبط تصنيع المثقف الاستعمالي بالتغريب، ومن قبل بالطامعين والمعتدين الغزاة الذين يحتلون بلاد المسلمين ويسيطرون على مقدراتها، وينهبون ثرواتها ،ويفيدون من مواقعها الاستراتيجية.
المثقف الاستعمالي مقابل المثقف العضوي كما يسميه الكاتب الشيوعي الإيطالي أنطونيو جرامشي (1891-ـ1937م) مؤسس فكرة "الهيمنة على الثقافة كوسيلة للإبقاء على الحكم في مجتمع رأسمالي"، ومفهوم "المثقف العضوي" عنده هو الشخص الذي يستطيع أن يُدرك بمهارة تنم عن وعي ثقافي مائز بحاجة طبقته وتصوراتها التي ينتمي إليها، ويعني جرامشي هنا مقدار ما يمتلكه هذا المثقف من وعي خلَاق يستطيع من خلاله التعبير عن أيديولوجيا الجماعة التي هو جزء فاعل وواع منها. إنه المثقف الوفي لقومه ولطموحاتهم ورغباتهم في الحرية والاستقلال والأمل.
المثقف الرسالي
ويمكننا القول إن المثقف العضوي عند جرامشي يقابله المثقف الرسالي في التصور الإسلامي حيث يصدع بالحق في مواجهة الباطل، ولا يخون أمته ولا يضللها ولا يدلس عليها ،ولا يساير الطغاة الذين يملكون السلطة- أي سلطة- ولا يبيع نفسه تحت أي ظرف، أو مقابل دراهم معدودة أيا كانت صورة هذه الدراهم وطبيعتها. إنه منتم لله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- مهما كان الثمن الفادح الذي سيدفعه.
أما المثقف الاستعمالي، فهو الذي تحركه مصالحه الشخصية ويستجيب للانحراف عن واجبه الديني والخلقي والإنساني، وهو في كل الأحوال استئصالي وتضليلي وتدليسي وكذاب ومنافق ويتصور الدنيا لا تمضي إلا وفق هذا التصور السلبي. ويوجد هذا المثقف في الصحافة والإعلام والتعليم والدعوة والجامعة والفكر والأدب ومراكز البحوث ونحوها.. يبحث عما يحقق له الشهرة والثروة والسطوة والقرب من مراكز النفوذ والقوة والجاه.
الدفع للزمار
قوى الطمع والاستبداد والعدوان اكتشفت منذ وقت مبكر أهمية وجود المثقف الاستعمالي في تحقيق أهدافها وغاياتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وإن لم تفصح عن ذلك دائما. وقبل سنوات عديدة أصدرت السيدة ف. س. سوندرز، وكانت تعمل في المخابرات المركزية الأميركية كتابا يحمل عنوان "الحرب الباردة الثقافية- من الذي دفع للزمار؟" (صدرت ترجمته عن المركز القومي للترجمة، ط4، القاهرة، 2009م)، تناولت فيه بالوثائق والأدلة دور المخابرات في تجنيد عدد من المثقفين كتابا وشعراء وفنانين في الغرب والعالم العربي، وتمويل مجلات أدبية وأنشطة ثقافية تروج لأفكارها في الحرب الباردة بين العملاقين: السوفيات والأميركان، وكان ميدانها: الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية والمنح والجوائز ..الخ ، حيث تكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع المخابرات المركزية الأميركية "CIA" لزرع فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة إلى عصر تنوير جديد، وأن ذلك كله سيكون اسمه "القرن الأمريكي". وقادت هذه الشبكة "منظمة الحرية الثقافية - Congress for Cultural Freedom" (تأمل دلالة الاسم)، وكانت بمثابة وزارة غير رسمية للثقافة الأمريكية ، أو لتكون "الزمار" الذي تدفع له CIA ثمن ما تطلبه من ألحان. وعرفت المنطقة العربية مجلات ومثقفين عملوا تحت لواء هذه المنظمة، عديدا من المجلات أشهرها مجلتا "حوار" و"شعر"، وعديدا من المثقفين، وكان معظمهم من اليساريين والطائفيين وخصوم الإسلام.
مسيلمة .. خلية نائمة
وفي عام ٢٠٠٦، صدرت ترجمة كتاب «المخابرات تحكم العالم»، تأليف رجل المخابرات السابق في الـ cia إنجيلو كود نيلا، والأستاذ الجامعي فيما بعد، ويتحدث فيه عن موضوع طريف ضمن ما يسميه العناصر النائمة أو الميتة، التي تجندها أجهزة المخابرات في بلد ما أو منطقة ما، وفى لحظة يحددها الجهاز تطلب الأجهزة من هذه العناصر أن تتحرك وتقوم بالمطلوب تخريبا أو إحداث فوضى وقلاقل، كل في دائرته، وقد ينجح أو يفشل. وقدم الكاتب «مسيلمة الكذاب» نموذجا للعناصر النائمة، فقد جندته مخابرات الإمبراطورية الرومانية في قلب الجزيرة العربية ودفعته لإضعاف المسلمين وإفساد وحدة الجزيرة العربية تحت راية الإسلام التي حققها النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولولا قيام أبي بكر رضي الله عنه بمحاربته لنجح مسيلمة في تغيير مسيرة الإسلام والمسلمين! ويشير مؤلف الكتاب إلى وثائق ومصادر رومانية اعتمد عليها في تناوله للموضوع الذي يبدو طريفا بالنسبة لنا، ولكنه يؤكد أنه شائع بين الباحثين في مجال الاستخبارات الغربية. هل خطر على بال المسلمين قديما وحديثا أن الرومان يمكن أن يكون لهم دور في صناعة مسيلمة الكذاب الذي عرف في التاريخ الإسلامي بالمتنبئ أو مدعي النبوة؟
رجع الصدى!
في العصر الحديث فإن الغرب لم يخافت بصناعة المثقف الاستعمالي ،مثلما يصنع المسئول الاستعمالي في البلاد المطموع في الاستيلاء عليها، أو نهبها أو السيطرة على مقدراتها. وأنقل بعض ما كتبه الأستاذ محمود صقر في مقاله (موقع المجتمع، 1/7/2020م)، حول الموضوع، حيث كتب الفيلسوف الفرنسي الشهير "جان بول سارتر"، في مقدمة كتاب (معذبو الأرض) للمناضل الفرنسي "فرانس فانون" عن صناعة المثقفين الببغاوات الموالين لهم:
"كنا نستجلب بعض أبناء المستعمرات، ونعلمهم لغتنا وعاداتنا، وندبر لبعضهم زيجات أوروبية، ثم نرسلهم إلى بلادهم؛ فنسمع من خلالهم رجع أصواتنا؛ فهؤلاء المثقفون الذين صنعناهم لا يملكون سوى ما نلقيه في أفواههم".
ويستكمل الروائي "إبراهيم أصلان" المشهد الذي رسمه سارتر فيقول بعفوية في كتابه "خلوة الغلبان" بأنه تمت دعوته إلى فرنسا عام 1994 مع مجموعة من (المثقفين) المصريين، ثم يقول:
"جلسنا وأمامنا مائدة ازدحمت بالمأكولات الخفيفة الملونة وزجاجات النبيذ الداكنة، ووراءها مجموعة من الفتيات الجميلات.. وكان يجاورني رجل يملأ لي الكوب كلما فرغ وعرَّفني بأنه يهودي.. همست في أذن جاري بأن هذا الرجل يهودي، فأجاب: وإيه يعني؟ كل الناس اللي معانا هنا يهود".
يختارونهم من اليسار
واضح طبيعة الصناعة الغربية والصهيونية لمثقفينا العرب، كما هو واضح نوعية المثقفين الذين يختارونهم من اليسار الذين هم في الأصل صناعة يهودية من خلال أحزابهم التي أنشأها اليهودي هنري كورييل في الأربعينيات، وتدين له وللكيان الصهيوني بولاء لا يخفى! إن هؤلاء المثقفين الاستعماليين قد يختلفون في أشياء كثيرة، ولكنهم يتفقون على شيء واحد في مجال النظرة إلى الأديان، هو كراهية الإسلام، ومحاربته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهوما يتجلى في سلوكهم الثقافي عبر الأجهزة التي يعملون من خلالها أو وسائل التعبير التي يهيمنون عليها، واستئصالهم لكل صوت أو قلم يتعاطف مع الدين الحنيف، بل إن دفاعهم عن اليهودية والنصرانية يمثل ذروة نضالهم الثوري والتنويري، أما يتعرض له الإسلام من تشويه وإهانة فيعني لديهم حرية رأي وحق تعبير .
أمر آخر يقدم ملمحا من ملامح التصنيع للمثقف الاستعمالي، وهو تكريمه بأعلى الأوسمة في الغرب. وتعد فرنسا طليعة القوم في هذا المجال لحرصها على الهيمنة على العقل العربي واستلابه، وتحويل ولائه إلى الثقافة الفرنسية في جانبها العنصري الاستغلالي المعادي للإسلام والمسلمين. إن عشرات المثقفين الذين حصلوا على هذه الأوسمة لا يتعاطفون مع الإسلام وقيمه ومنهجه وتشريعاته، بل إن كثيرا منهم لا يخافت في الهجوم على الدين الحنيف والتشكيك في صلاحيته لكل زمان ومكان، والترويج للأفكار الغربية والصهيونية المسمومة تجاهه.
تمجيد الاستعمار
لقد أسفرت عملية تصنيع المثقف الاستعمالي عن سقوط العديد من مثقفي الغرب، وعدد غير قليل من كبار مثقفينا العرب، وكثير من صغارهم في أخطاء قاتلة بالنسبة لإنسانيتهم فضلا عن الدين الإسلامي الحنيف، حين مجدوا الاستعمار وأشادوا به، وأظهروه مبشرا بالكرامة والحرية والديمقراطية والتقدم والتنوير في بلادنا المتخلفة.
خذ مثلا فيكتور هوجو الذي تعاطف مع البائسين في رواياته وكتاباته. لقد أيّد الاحتلال الفرنسي للجزائر ولم يلتفت إلى المذابح والجرائم التي ارتكبها الفرنسيون الغزاة في بلد مسالم لم يذهب لمقاتلة الفرنسيين في بلادهم. وسار على نهجه كتاب غربيون ومثقفون كبار من أمثال كارل ماركس ، وفريدريك إنجلز في الإشادة بالوجود الاستعماري لفرنسا في الجزائر المسلمة.
على الجانب العربي الإسلامي خذ مثلا طه حسين، حين أهدى رسالة الدكتوراه التي قدمها إلى جامعة السوربون عام 1918م، إلى السلطات الفرنسية التي تقاوم البرابرة في سبيل نشر حضارتها (يقصد أهل الجزائر ولا يقصد البرابرة –الأصل الأمازيغي لبعض سكان الجزائر- ولكنه يقصد الهمج بالمفهوم الثقافي المنحاز للغرب وثقافته). لم يكن هذا الاهداء اعتباطيا، ولكنه كما أشار بعض الكتاب مجاملة لزوجته الفرنسية سوزان بريسو، ولجنة المناقشة والمشرفين عليه. وإن كان في مرحلة متأخرة قد أسقط هذا الإهداء حين شعر بالخطأ الشنيع. وليت الأمر اقتصر على ذلك بل تعداه إلى الإشادة بالغرب وثقافته في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي يطبعه المثقفون الاستعماليون في مصر مرارا وتكرارا مكايدة للإسلام والمسلمين، فقد انخدع طه بوهم الحداثة والتنوير الغربيين، واندفع ليطالب بقبول الحضارة الغربية بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحبّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب، بعد أن حمل حملة عنيفة على الشرق وحضارته. وللإنصاف فقد تمنى في أخريات حياته أن يراجع كتابه ربما للتخفيف من غلوائه تجاه كراهية الشرق، وحب الغرب!
اتسخت أذناه
وهناك كاتب جزائري آخر يدعى قدور بن غبريط تحدث عنه أحمد حسن الزيات في «وحي الرسالة»، فذكر أنه حضر تدشين مسجد باريس في عام 1926، واتّسخت أذناه مما سمع من تزلف بن غبريط وتملقه لفرنسا، فلما جمعهما لقاء سأله: «كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد؟ ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذّلة؟». فلم يدعه يتمّ كلامه وإنما قاطعه محتدّا بقوله: «لا يا سيدي، ليس الفرنسيون بأكثر فرنسية منا، نحن نتمتع في ظلال الجمهورية بالإخاء الصحيح، والرخاء الشامل. وإن الجنود الجزائريين في الجيش والشرطة، والعمال المراكشيين والتونسيين في المصانع والمزارع يُعاملون بما يعامل به الفرنسي القحّ. أدام الله نعمة فرنسا على شعوب العرب، ونفع بعلومها وحضارتها أمم الإسلام!».
لقد حول بن غبريط مسجد باريس إلى إقطاع له كما وصفه مالك بن نبي، حيث اتخذ مسجد باريس منبرا لتزكية الاحتلال وشرعنته. ونسي أن الاستعمار الذي مضى عليه قرن لم يأل جهدا في محاربة اللغة العربية والدين الإسلامي والشخصية الوطنية. ( اقرأ تفصيلا أوسع في مقال: إبراهيم مشارة، حين يمجد المثقف الاستعمار: سقطة طه حسين وتناقض ماركس، القدس العربي،29 نوفمبر،2020).
المثقف الاستعمالي لا يبالي بما ينبغي أن يقوم به، لا يرقب إلا ولا ذمة، على استعداد أن يبيع الدين لو كان عالم دين، ولا يخجل أن ينقر الدف أو يدق الطبل لو كان أديبا أو كاتبا، وقد رأينا من يبشر بصورة الدين الجديدة التي رسمها الغرب للمسلم الذي يفرط في أرضه وهويته، ويمارس اللهو والمحرمات، ويعيش متسولا في العلم والإنتاج على أكتاف الآخرين، ورأينا كتابا مواهبهم متواضعة يهللون لبعض القرارات والقوانين التي تنتقص من الحرية وتؤصل للاستبداد، ولا يكتفون بذلك بل يشبهونها بعبور المقاتلين في حرب رمضان.
وبدلا من دفاع المثقف الاستعمالي عن حقوق الإنسان في الحرية والكرامة والمساواة والأمل والديمقراطية والشوري والتعبير عن هويته واحترام خصوصيته، يتحول إلى مساندة الطغاة والمستبدين، والوشاية بزملائه الأحرار، ويركز على القضايا الهامشية التي تشغل الناس ولا تنتج فائدة كبيرة للشعب، مثل الحديث عن الراقصات.. وفضائح الفنانين، وكرة القدم.. والحوادث الفردية التي محلها أقسام الشرطة والمحاكم!
نفاق.. وتناقض
المثقف الاستعمالي يذرف الدموع ويبدي مشاعره المرهفة تجاه ذبح الأضاحي في العيد، ولكنه يتجاهل ذبح المسلمين في بلاد الاستبداد والتعصب والوحشية. يشغله غشاء البكارة ويدين الناس لاهتمامهم بالعفة، ولكنه لا يهتم بغشاء الظلم والقهر والاستبداد والفساد الذي يذبح الأمة ويحولها إلى معرة البشر! يتحول أحيانا –ويا للسخرية- إلى مخبر شرطة حين يشي بالكتاب الرساليين أو العضويين إلى أجهزة الأمن، وكأن هذه لا تعرف دبة النمل في حياة من يحملون الأقلام أو يخاطبون العقول والأفئدة!
المثقف الاستعمالي يكاد أن يكون وحده في الميدان في معظم بلادنا العربية، وينتشر في الصحافة والسياسة والسينما والدراما والفكر والأدب، وهو ما يمثل إعاقة كبيرة لأمتنا ،وأملها في النهوض والتقدم. فقد تم تغييب المثقف الرسالي وتهميشه بل استئصاله في كثير من الأماكن.
وسوم: العدد 914