في تقويم مرحلة ترمب
ذهب الرئيس السابق دونالد ترمب وغادر البيت الأبيض، ولكن يبقى الجدل كبيراً حول التركة التي خلَّفها وراءه التي يرى الكثير من الخبراء أنها ستدوم لسنوات طويلة مؤثرة بشكل سلبي على النسيج الاجتماعي والسياسي الأمريكي
على الذين أيّدوا دونالد ترمب من الحكام العرب وبعض النخب أن يندموا على ذلك التأييد. فقد أخطؤوا من حيث أُعجبوا بسياساته. وذلك لأنها كانت مضرة بأمريكا ولسنوات طويلة قادمة. كما يجب أن يندم أكثر الذين اعتبروا أمريكا ملهِمة لهم بنموذجها الديمقراطي. فقد وجَّه ترمب إلى تلك الديمقراطية ضربة قاتلة من خلال اتهامها بالتزوير في نتائج الانتخابات.
وعلى الذين ضاقوا ذرعاً بسياساته وضغوطه المختلفة أن يقتصدوا بفرحة سقوطه. لأن بقاءه على رأس أمريكا لسنواتٍ أربع أخرى كان سيزيدها مَضرة وتراجعاً. وذلك سواء على مستوى الانقسام الداخلي أو على مستوى التراجع الأمريكي الدولي العام.
إذا كان عهد ترمب جيداً من ناحية إضعاف أمريكا داخلياً وزيادة عزلتها خارجياً، فبقاؤه من زاوية استراتيجية كان أفضل. فحماقة عدو شديد الإيذاء ولكنه فاشل أفضل من عدو ذكي ماكر يذبح بخيط "الحرير".
فأمريكا بعد بريطانيا (أوروبا عموماً) كانت رأس كل شر حاق بالقضية الفلسطينية وبحركة التحرر العربي وحتى بمشاريع كل تقدم عربي بما في ذلك مع حلفائها. وأمريكا على رأس كل خراب حلّ في المناخ والطبيعة والحياة البشرية، من خلال قيادتها للنظام الرأسمالي الإمبريالي العولمي الذي تعامل مع كرتنا الأرضية كعدو يجب استنزافه استنزافاً حتى الدمار.
كان عهد دونالد ترمب سلبياً وخراباً على قوة أمريكا وعلى سمعتها وهيبتها، فقد وصل الداخل الأمريكي إلى مستوى من تعميق الانقسام لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث، الأمر الذي فرض على الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن أن يجعل من وحدة أمريكا موضوعه الوحيد في خطاب تنصيبه رئيساً.
طبعاً ليس ترمب هو وحده صانع الانقسام بل هو من نتائجه، ولكنه أعاد إنتاجه أيضاً للذهاب به إلى الحد الأقصى. فمن يُدقق في وجوه إدارة جو بايدن وانتماءاتهم وما يمثلون فلا بد من أن يرى الوجه الآخر للانقسام، ويتفهم موقف الجزء الرئيسي من عشرات الملايين ممن انتخبوا ترمب. بل ويتفهم ترمب نفسه أيضاً، ولو أنه ذهب إلى الحد الأقصى البشع في التعبير عن ذلك الانقسام.
ولكن بالمقابل فإن المرء لا يتفهم الحزب الديمقراطي وهو يذهب إلى الأقصى في تشكيله الإدارة الجديدة التي لا بد من أن تطيّر صواب الملايين من "الواسبس"، وهم الأمريكان البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت.
الأمر الذي يعني أن أمريكا منقسمة وذاهبة إلى تعميق الانقسام، على الرغم من كل نيات الوحدة التي تضمَّنها خطاب جو بايدن في حفل التنصيب.
أما بالنسبة إلى الاستمرار في تقويم عهد ترمب، مع نوع من "الأسف" لسقوطه، فيوجد بُعد يستدعي التأمل فيه ألا هو إصرار ترمب على اعتبار الانتخابات الرئاسية التي فاز بها جو بايدن مزوّرة.وأغلب الظن أنه على حق، فالتزوير ربما قد حصل وغُطي عليه لأن أجهزة الدولة العميقة ومعها أغلب وسائل الإعلام إن لم يكن كلها قد حرصت على إسقاط دونالد ترمب وأحبطت كل مساعيه وتركته فاقداً لصوابه كالمجنون (اللهم لا شماتة فهو يستحق أكثر بسبب ما فعلت يداه بفلسطين وإيران والعرب والمسلمين، فما من ظالمٍ إلا ويُبلى بأظلم).
هذا يعني أن دونالد ترمب وجَّه ضربة "قاتلة" عملياً إلى الديمقراطية الأمريكية التي تقدم نفسها نموذجاً أعلى، حاربت من خلاله خصومها في العالم كالمعسكر الشرقي الذي كان إحدة نقاط ضعفه تبنِّيه النموذج الأمريكي: ديمقراطية ومنافسة وحرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة.
بالمناسبة حُشد من "الجند" لضبط الأمن في واشنطن -بل في الولايات الخمسين- لتأمين انتقال سلمي للسلطة أكثر عدداً وأكثر هولاً مما يُحشد لو أن انقلاباً عسكرياً يستولي على السلطة.
هذا ما فعله دونالد ترمب بالديمقراطية الأمريكية، إذ بدت ديمقراطية تزوّر الانتخابات وتنقل السلطة السلمية في ظل حكم طوارئ وحِراب الجند.
كان ترمب يحاول إحداث تغيير في الدولة العميقة وفي السلطة التي اتَّسمت فيها الديمقراطية الأمريكية بمبدأ تقاسُم السلطة وتبادلها بين حزبين، أو بين من لا فرق بينهما أكثر من الفرق بين البيبسي كولا والكوكا كولا، على حد وصف رالف نادر وهو مرشح سابق في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
هذا ما حدث من هزة للديمقراطية في أمريكا عندما وقع خلاف جدي نسبياً. ولكن طبعاً لا يقارن بما يقوم من خلاف بين المتنافسين بانتخابات ديمقراطية في بلادنا، وهو ما يفرض فهم هذه الإشكالية التي تواجه الديمقراطية.
اعتبر كثيرون أن دونالد ترمب أساء إلى أمريكا وأضعفها في سياساته الخارجية. وابتداءً من حلفائه فقد أهان السعودية حين ابتزها علناً لدفع مئات المليارات مقابل "حمايتها". واستفز ألمانيا وعدداً من دول أوروبا حين طالبهم برفع المبالغ التي يدفعونها في موازنة حلف الأطلسي مقابل الحماية أيضاً، مما اعتُبر ابتزازاً ومخالفة للأسس التي قام عليها الناتو.
وقد انسحب من اتفاق المناخ وجمّد اتفاقية نيو ستارت النووية مع روسيا وانسحب من منظمة الصحة العالمية والأونروا، فضلاً عن اللعب لإخراج بريطانيا أو تشجيعها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. الأمر الذي عزل أمريكا عملياً على المستوى الدولي، وعزز دور روسيا والصين ولو بصورة غير مباشرة.
وحتى لجوؤه إلى العقوبات والحصار والاعتداءات والاغتيالات عاد عليه وعلى أمريكا بالإدانة، وكذلك استخدام سياسات القوة والإرهاب والابتزاز. وكل ذلك بمخالفة صريحة للقانون الدولي ولميثاق هيئة الأمم المتحدة. صحيح أنه أوقع أذىً شديداً بمن وجّهت إليهم هذه الاعتداءات، ولكنه في المقابل فشل في إخضاع أحد (عدا السودان) ولا سيما قوى المقاومة وإيران وفنزويلا وروسيا والصين وتركيا. والنتيجة الحقيقية كانت الفشل والعزلة وتصاعد مستويات الصمود والتحدي.
وحتى القضية الفلسطينية التي خصص لها "صفقة القرن" وأعلن القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها وسحبه لدعم وكالة الأونروا وما مارسه من ضغوط على الدول العربية من أجل التطبيع (التحالف) مع الكيان الصهيوني فقد اتسم عملياً بالفشل وسوف يفشل لاحقاً. وهذا ما يفسّر محاولة إدارة جو بايدن تلافي سلبياته من خلال شق الصف الفلسطيني مرة أخرى، وهو ما سيثبت أن بايدن أشد خطراً من ترمب في موضوع القضية الفلسطينية.
وبكلمة أخرى إن محصلة الأربع سنوات التي حكم فيها ترمب كانت سلبية على أمريكا داخلياً وخارجياً، ومع انتشار جائحة كورونا زاد الأمر سوءاً، وهو ما يسمح بالقول إن بقاءه كان أفضل من سقوطه للإسراع أكثر في تراجع أمريكا. ولكن البركة فيه إذا ما استمر في حربه الداخلية تحضيراً لانتخابات 2024.
وسوم: العدد 914