في عيد الحب...... كلمات وهمسات
ما إن يذكر الحب حتى تتداعى إلى الأذهان معانٍ سلبية ويتبادر إلى العقول خيالات تتعلق بالهوى والأهواء وبعلاقات العشق الآثمة. هذه الصور النمطية رسخها الغزو الفكري والهيمنة الإعلامية الغربية في زمن العولمة والتي تصف العلاقات الجنسية غير المشروعة بالحب، وعززت تلك الصور جموع متكاثرة ممن يتسيدون المشهد الإعلامي العربي من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في مجتمعاتنا ومجمعاتنا، من خلال روايات وأعمال فنية وبث للمسلسلات المدبلجة والتي تشيد بالعلاقات المحرمة وتظهر مقترفيها على أنهم أبطال رومانسيون وشخصيات جديرة بالإعجاب والتقدير.
الهزيمة النفسية والشعور بالدونية والنقص، حدت بكثير من العرب والمسلمين إلى التقليد الأعمى للغرب ونقل صرعاته كالاحتفال بما يسمى عيد الحب أو الفالنتين، وهو عيد يمجد الحب بأسلوب مادي ممتهن وتجاري رخيص. فما إن يهل علينا شهر شباط/ فبراير حتى تمتلئ مراكز التسوق في العديد من العواصم والمدن العربية بقلوب وورود حمراء تحتفي بالعشق والعشاق بالمعاني السلبية والشهوانية على الأرجح، لتشكل المناسبة موسماً تجارياً للبعض وتكريساً للهيمنة الغربية ببعديها الثقافي والأخلاقيوالمعنوي.
وصف العلاقات المحمومة وغير المشروعة بالحب فيه تعسف كبير وظلم بيّن، فالعلاقات التي دافعها النزوة والشهوة وحاجة كل فرد للآخر ليطفئ شهوة جسمه من خلاله أو يترع من كؤوس اللذة هي أبعد ما تكون عن الحب، فهي غالباً ما تنقلب بعد أن ينتهي كل طرف من شهوته وينهي من الآخر حاجته إلى خصومة وجفاء. فالحب بمعناه الإنساني النبيل علاقة تقوم على العطاء والتجرد والتضحية، كالحب الذي تحمله الأم لرضيعها والذي يدفع بها إلى السهر والمعاناة وهي راضية في داخلها، مسرورة في مشاعرها. كما أن من صور الحب الحقيقي بر الإنسان بوالديه في الكبر وقد استغنى عنهما مادياً ولكن مشاعر البر والحب تدفعه لأن يخفض لهما جناح الذل ويتحمل بكل الود رغباتهما بل ونزواتهما في بعض الأحيان رغم أنه قد يكون في موقع العطاء لهما.
إن التفكر في مفاهيم الإسلام وتوجهاته تظهر وبجلاء أن للحب في الإسلام موقعا متميزا وبارزا، بل قد لا يكون المرء متعسفاً أو مبالغاً إذا ما اعتبر أن الإسلام دين الحب. فللحب وتفرعاته في الإسلام مكانة بارزة إن كان في العقيدة أو في السلوك أو في التعامل مع الآخرين. فحب الله ورسوله وتقديم هذا الحب على ما سواه شرط لازم لاكتمال إيمان العبد. بل إن العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وعباده الصالحين قائمة على الحب "يحبهم ويحبونه". أما أرقى العلاقات في المجتمع الإسلامي فتلك المبنية على الحب الخالص في الله، هذا الحب والذي يدفع بأصحابه للتجرد والعطاء وإيثار المحبوب في ما يحبون ودفع عنه ما يكرهون، وعلاقة الحب هذه شرط لتمام الإيمان ودخول الجنة.. "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا" كما قال صلى الله عليه وسلم. كما إن هذا الحب يحمي أصحابه من أهوال يوم القيامة ويجعلهم في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، ليناديهم المولى سبحانه بقوله: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.
وحتى تتعمق علاقات الحب في المجتمع الإسلامي وتترسخ مفرداتها، يشجع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحث المؤمنين بأن يتبادلوا عبارات الحب فيما بينهم "إذا أحب أحدكم أخاه، فليُعْلِمه أنه يحبه". ومن أخلاق الحب التي نمت ونبتت في واحات الإيمان وتوجهت للآخر وللمجتمع، تتفرع المشاعر النبيلة في الإحسان والتعاطف والرفق والمودة.
فالقلب الممتلئ بالحب الراقي لا يتحمل أن يحمل الكبر ولا التعجرف ولا القسوة. فمن مستلزمات الحب ونتائجه ودواعيه حس مرهف لا يقبل بالظلم ولا يستطيع سوى أن يكون نصيراً للمستضعفين وسنداً لليتامى والأرامل وعوناً للمحاصرين والمضطهدين والمحرومين. العلاقة بين الزوجين في المفهوم الإسلامي -وهي علاقة تعبدية ابتداء- مبنية على الحب الراقي والمستند لحب الله والمتفرع منه، فيما تأتي الحاجات المادية الطبيعية لتخدم هذا الحب وتسنده لا لتسيره وتقوده وتوجهه. فالحاجات الجسدية تصب في صالح المشاعر النبيلة، لتبقى تلك المشاعر حية ومشتعلة وإن تقدمت السنون ووهن العظم واشتعلت الرؤوس شيباً.
الحب تضحية وعطاء يرقى بالإنسان ويسمو به، فتستمع به الروح ويأنس به القلب وتزداد المتعة، وليتألق رونق الحب في الأنفس والقلوب والأفكار، وليس من الحب في شيء تلك العلاقات الشهوانية والتي تحب في الطرف الآخر ما تريد منه حتى إذا ما انقضت الحاجة تبدلت المواقف وانقلبت المشاعر، وإذا بالأخلاء خصوم وأعداء.
وسوم: العدد 916