الحقيقة

أنظرُ حولي ، أتمعن في وجودي ، وفيما هو حولي . ثم أتساءل : كيف لي أحظى بومضة نورانية تشرق في ذاتي ليحالفني أملي لأصل إلى ما أريد؟ وأحقق الراحة  لضميري أولا ثم لأفكاري وتطلعاتي . لم تكن تساؤلاتي عابرة أو هكذا صدفة كما يقولون لي ، ولكن القدر  أراد لي أبحر خلال هذا اليم المهيب الممتد إلى مابعد الأفق الذي أراه أنا ، ويراه غيري من المبصرين .

أقف لأرى المشهد رائعا من خلال سكينةٍ تمنحني الكثير من الهدوء والغبطة ، فتتراءى لي تفاصيل غير مقلقة ، ربما عانت نفوس أخرى في متاهاتها ، أو هكذا يخيل إلى تلك النفوس أنها متاهات ! وقد تفيض عيناي بالدموع رغبة فيما يمكن أن أراه ، ورهبة لهيبة ماقد يتراءى لي وعظمته . وعندها لاأشعر بأي ضعف ، ولا يخطر ببالي أن يداهمني أيُّ خذلان .

نفحة هادئة من وراء السحب البيض تجعلني أطير نحوها ، وكأنني فراشة ذات جناحين ، أطير شوقا إلى فوق هذا التراب ، فوق حياة المادة التي يشتغل فيها أكثر الناس . إنه أمل جديد يغشى تطلعاتي الجميلة ، ويبعث في أعماقي حيوية جديدة لم أكن أشعر بها من قبل . ها أنذا أحب أن أنال من هذا المشهد النفيس كلَّ ما أريد ، دفعة واحدة ، ولن أصاب بالغرور ، فقبائح العادات لاأعرفها ، وأتمنَّى أن  لاتلحقني عواقبُها  المحزنة .

لن أدفع بمخيلتي إلى مايسمونه المستحيل ، ولن أستسلم لوسوسة غريبة تمر بكل إنسان ، قد أتعثر أو أسقط في حفر الطريق وأنا أجدُّ السير فيها لأدرك نهايتها ،  ولكني أجدُ يَدًا تنتشلني من مفازة عمياء أو عقبة كأداء أو حفرة  سحيقة ، فأقف من جديد وأمسح فيض دموعي التي تدفقت فرحا لتلك النجدة الغالية في ساعة الانحدار . فأتنفس الصعداء وأنا أهزأ بخيباتي ، وأنظر إلى مكان عثراتي نظرة المنتصر على الذات ، وعلى مايعتريها من الأزمات والشدَّات .

 المشهد مازال رائعا ، حيث تبعثرت أشلاء الخيبات  على أطراف قارعة الطريق الممتد إلى الأفق الذي أجد فيه تلك السكينة التي تغيب عن ذاتي في بعض الأحيان . إلى أن سمعتُ صوت البوح القدسي يتلو : ( قُلْ أَنَدْعُواْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) 71/ الأنعام .

إذن : الله جلَّ جلاله هو الذي حباني بالسكينة ، وملأ حياتي بأنوار الهدى ، وأنقذني حين تعثرت وحين سقطت ، ساعتها عدتُ إلى المشهد الذي انتشلتْ فيه تلك الصحابية طفلَها من شدة الزحام خوفا عليه . فقال الأصحاب  رضي الله عنهم : يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنَها في النار ! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولا يلقي اللهُ حبيبَه في النَّار) رواه أحمد.

يارب أنت وحدك كنتَ إذا ضاقت بي كلُّ السبل تجبر لي ماتصدّع من كياني إثرخيبات متتاليات ، وتنير لي ممشاي رغم كل العتمات ، فأراه ذا بهجة فائقة تحمل منك وحدك ومضة النور التي تغشى محياي ، فأُشاهَد من خلال أثر التغيير الذي منحتني إياه يا ألله .

وسوم: العدد 917