شر استكبار الاستنكاف عن الاعتذار
الاستكبار أخس رذيلة على الإطلاق ، وقد سنه لبني آدم شر مخلوق على الإطلاق، وهو إبليس اللعين الذي استنكف عن السجود لما خلق الله عز وجل بيده استكبارا . ومعلوم أن الاستنكاف وهو الامتناع ترفعا عن فعل الشيء إنما يكون بدافع الاستكبار الذي هو تعال وتعاظم شعاره مقولة إبليس اللعين " أنا خير منه ... " . والاستكبار والاستنكاف لهما نفس الصيغة الصرفية الدالة على الطلب حيث يطلب الكبر أو الكبرياء و كما يطلب النكف وبينهما علاقة جدلية حيث يستدعي الواحد منهما حضورالآخر بالضرورة .
وغالبا ما يبدأ الاستكبار في شكل مقارنة يجريها الفرد بينه وبين غيره، فينتج عنها شعوره بتعالي وتعاظم نفسه مقابل استصغاره شأن غيره ويكون لسان مقاله أو حاله أو هما معا " أنا خير منه "، وهي العبارة التي طردت إبليس اللعين من رحمة الله عز وجل ، كما أنها طردت خلقا كثيرا من بني آدم منها ، وهي التي ما زالت كذلك، وستبقى طاردة للمزيد منهم حتى تقوم الساعة .
ومع أن الله عز وجل حذّر بني آدم من آفة الاستكبار على طريقة عدوهم إبليس اللعين ، فإنهم قد تلقفوها عنه، واتخذوها شعارا لهم . ولا يوجد مثقال ذرة من استكبار في بني آدم إلا ووراءه وسوسة إبليس اللعين الذي أقسم بعزة الله عز وجل أن يأتيهم بين أيدهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم بإغرائهم بالاستكبار بكل أصنافه والذي هو تعال عما أراد الله عز وجل أن يكونوا عليه من أحوال .
ولقد كان استكبار إبليس اللعين شر استكبار على الإطلاق لأنه جمع بين الاستنكاف عن السجود لآدم عليه السلام لمّا أمر به والاستنكاف عن الاستغفار والاعتذار عن ذلك . ولقد أشاع اللعين هذا النوع من الاستكبار الذي أصابه بين بني آدم ،فصاروا يتمرد على خالقهم سبحانه وتعالى فيستنكفون عن الاستغفار ، وصار بعضهم يسيء إلى بعض أو يظلم بعضهم بعضا فيستنكفون عن الاعتذار إلى بعضهم البعض وقد ألقى إبليس اللعين في نقوسهم أنهم إذا ما استغفروا ربهم أو اعتذروا لبعضهم فإنهم سيعرضون أنفسهم للإهانة بعد عزتها ، وسينزلون بها من علياء تعاليها وشموخها إلى أسقل حضيض الذلة والمهانة ، فيشق عليهم الاعتذار على ما فيه من فضيلة ترفع من شأنهم إلى أعلى علياء السمو الأخلاقي .
ومعلوم أن الإنسان عندما يسيء إلى غيره إما عامدا أو غير قاصد يكون بين خيارين ثالثهما مرفوع إما الإسراع إلى فضيلة الاعتذار أو الركون إلى رذيلة الاستنكاف عنه بدافع رذيلة الاستكبار . والغريب أن المستنكف عن الاعتذار لمن أساء إليه استكبارا يتوهم باستكباره واستعلائه على فضيلة الاعتذار أنه قد اختار المسلك الصحيح المفضي إلى سامق العز وهو لا يدري أنه قد تردى في حمأة الذل والهوان .
و الاستنكاف عن الاعتذار لعموم الناس قبيح، وأقبح منه الاستنكاف عن الاعتذار للأحبة والقرابة والجيرة والأصدقاء ويكون الاستكبار الداعي إليه والمحرض عليه أشنع .
ومعلوم أن الاستنكاف عن الاعتذار استكبارا لمن ظلم أو أسيء إليه يوغر صدره على المستكبر المستنكف عن الاعتذار ، وهو ما يمحق ما كان بينهما من مودة فتصير إما فجأة وفي الحال أو مع تراخي الزمن عداوة وبغضاء . وأجمل اعتذار أسرعه لأنه يكون عبارة عن ماء يطفىء نار الغضب في قلب المعتذر له . ومن شأن الاعتذار الأسرع أن يزيد من كانت بينهم مودة مزيدا منها، وهو ما لا يتفطن إليه بسبب آفة الاستكبار التي تحجب عن أصحابها بعد النظر وصائبه . وكلما كان الاعتذار أسرع دل ذلك على صدق المودة بين المتحابين ، بينما تأخره يدل على هشاشة المحبة بينهم، وربما دل على زيفها .
و مما يدل عليه الاعتذار في أبسط أشكاله كأن تحدث نفس صاحبها بالتقدم على غيره في حديث أو في جلوس أو في دخول إلى أماكن أو خروج منها أو في مرور... أو غير ذلك من أمور بسيطة أن المعتذر باستخدام كلمة عفوا أو معذرة أو غيرهما مما يعتبر اعتذارا في مثل هذه الأحوال شريطة ألا تكون تصنعا أو مجاملة كاذبة قد خلت نفسه من الاستكبار المانع للاعتذار . ومن اعتذر في أمور بسيطة غير ذات بال، فهو اقدر و أشجع على الاعتذار فيما هو أكبر منها وأخطر شأنا .
ومن صفات الإنسان المؤمن أن سلوك الاعتذار يلازمه في كل أحواله خصوصا حين يقف بين يدي خالقه سبحانه وتعالى في صلاته، فيستغفر ربه وهو في منتهى الخضوع والذلة راكعا وساجدا واستغفاره عبارة عن اعتذار لربه عما فرط في جنبه ، وهو يتوسل به أيضا للاعتذار إلى من أساء إليهم من خلقه . وعجبا لمن يعتذر إلى خالقه عن الإساءة إلى خلقه ، ولا تحدثه نفسه بالاعتذار إليهم مباشرة .
وقياسا على الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " يجوز القول من لا يعتذر للخلق لا يعتذر للخالق سبحانه وتعالى .
ومن الكياسة أن يتهم الإنسان نفسه إذا ما رابه شيء من إساءة إلى غيره ، فيبادر إليه بالاعتذار وهو مجرد ظان صدور الإساءة منه غير مستيقن حق اليقين ، كما أنه ومن العجز أن ينزه الإنسان نفسه عن الإساءة إلى غيره مع حصول يقين أو شبهه في نفسه بذلك ، وهو ما يدل على إصابته بداء الاستكبار الذي من أعراضه الاستنكاف عن الاعتذار .
وسوم: العدد 919