انحياز إلى حوران
أنحاز شخصياً إلى تاريخ 18 آذار (مارس) 2011 في تحديد البدايات الفعلية للانتفاضة الشعبية السورية، ليس لأيّ اعتبار يقلل من أهمية المظاهر التي اقترنت بالتاريخ الأوّل، 15 من الشهر إياه؛ بل – ببساطة بليغة في ذاتها، كما أخال – لأنّ التاريخ الثاني يقترن بمظاهرات درعا البلد، ثمّ حوران إجمالاً. واليوم، في التاريخ نفسه واحتفاء بالذكرى العاشرة للانتفاضة، لم تكذّب المدينة وريفها خبراً، في جاسم وبصر الحرير وعلما والكرك والحراك والجيزة… ولم تخيّب أملاً، فخرجت من الجامع العمري (دون سواه، للتذكير المفيد!) تظاهرات تهتف للشهيد، وتهزج على منوال ما فعلت قبل عشر سنوات: «هاي بلاد العزّ ونحنا رجالها/ وإنت يا شهيد من أبطالها».
حوران، بادئ ذي بدء، استبقت فتيان سوريا وأطفالها في اعتناق الشعار الشهير «إجاك الدور يا دكتور»، الذي كُتب على الجدران وأطاش صواب رأس النظام ومعه ابن خالته العميد عاطف نجيب، فلم يتوقف الأخير عند اعتقال العشرات منهم، وتكسير أصابعهم؛ بل طالب ذويهم بأن ينسوا أبناءهم هؤلاء وأن يعودوا إلى زوجاتهم كي «يصنعوا» أطفالاً آخرين، أو يتركوا هذه المهمة إلى رجال جهازه الصناديد! كذلك كانت حوران قد بذلت أوّل الدم السوري فداء للانتفاضة، فسقط قبل أن يكتمل الشهر عشرات الشهداء؛ في طليعتهم أمثال حسام عياش ومحمد الجوابرة وأيهم الحريري. وأمّا قصف جامع المدينة، العمري العريق الشهير، فقد دشّن عبور نهر جديد من الدماء بين آل الأسد والشعب السوري، فلم تكتف أجهزة النظام باقتحام مسجد لجأ إليه مواطنون جرحى عزّل حتى من الحجارة؛ بل أدخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد كي «تضبط» الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى «المندسين» من جهات خارجية.
والحصار الذي فرضه النظام على حوران، وشمل الماء والكهرباء والغذاء والدواء والاتصالات والخروج من المحافظة أو الدخول إليها، كان مناسبة لاستيقاظ ضمائر العشرات من الفنانين والكتّاب والمثقفين عموماً، وإصدار بيان يطالب برفع الحصار عن المحافظة؛ عُرف باسم «بيان الحليب» في أدبيات الانتفاضة (لم يكن أدونيس في عداد الموقّعين، غنيّ عن القول، ربما خشية أن تُوزّع علب الحليب من الجوامع مثلاً!). صحيح أنّ عدداً من الموقّعين تراجع سريعاً عن نبرة البيان، وعدد منهم عاد إلى الانضواء في سردية النظام؛ إلا أنّ البيان احتفظ بنقائه التحريضي المبكّر ذاك، واستولد جمهرة من الأسماء التي سوف تبقى على مواقفها في تأييد الانتفاضة، وسيضطر عدد كبير منها إلى مغادرة البلد.
سبب آخر صنع خصوصية حوران في الوجدان السوري عموماً، وضمن تراث الانتفاضة خصوصاً، هو أنها جارة أجزاء واسعة من الجولان المحتل؛ وكان أقصى الحزن، عدا المفارقة الفاضحة الصارخة، أن يشهد السوريون، والحوارنة تحديداً، بطولات جيش النظام وأجهزته الأمنية في استخدام الرصاص الحيّ والقصف الوحشي بالمدفعية والدبابات والراجمات، وذلك على مرمى حجر من جبهات الجولان الصامتة تماماً مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. والجيرة بين حوران والجولان رسخّت مكوّناتها أواصر القربى والاجتماع البشري والجغرافيا، فضلاً عن التاريخ السحيق مثل القريب؛ ولم يغب ذلك كلّه عن النابغة الذبياني وهو يرثي أحد أمراء الغساسنة: «بكى حارثُ الجولان من فَقدِ ربِّهِ/ وحَورانُ منهُ موحشٌ متضائِلُ».
انحياز إلى حوران إذن، في الذكرى العاشرة، لا يُغفل حقيقة ختامية «حربية» هذه المرّة: أنّ سهولها احتضنت معركة اليرموك الشهيرة، سنة 636 م، بين المسلمين والروم، وانتهت إلى هزيمة أقوى جيوش العالم آنذاك؛ ومنها سوف يطلق هرقل كلمته الجريحة الشهيرة، حين غادر إلى غير رجعة: «السلام عليك يا سوريا، سلاماً لا لقاء بعده، ونِعْمَ البلد أنت للعدوّ وليس للصديق، ولا يدخلك روميٌ بعد الآن إلا خائفاً».
وهيهات أن يسلم مجرمُ الحرب الكيماوي من مصائر مماثلة، لعلها ستكون أدهى وأشدّ مضاضة؛ طال زمن سوريا وحوران، أم قصر.
وسوم: العدد 921