الحشاشون الذين حكموا سوريا ...
بعد قيام الوحدة توافدت على الإقليم السوري أسراب من النشالين والباعة الجوالين من الرجال والنساء الذين ملؤوا الأسواق، وكان معظم هؤلاء الباعة من عناصر المخابرات المصرية لذلك امتنع رجال الشرطة المتخصصين بتنظيم الأسواق من الاقتراب منهم أو فض منازاعاتهم وتسلطهم على المواطنين السوريين، وأخذ النشالون المصريون يمارسون عملهم بحرية مطلقة دون أن يجرؤ أحد من رجال الأمن من اعتراض طريقهم.
كانت تجارة وتعاطي الحشيش، غير معروفة في سورية بشكل كبير، وكان يطلق لقب المحشش على الشخص كثير الغباء قليل الذكاء، حتى أن قانون العقوبات السوري الصادر في العام 1949 وتعديلاته الصادرة في العام 1952، لم تكن تعاقب جناية تعاطي أو اتجار الحشيش بعقوبات كبيرة، كانت عبارة عن عقوبات بسيطة لا تتجاوز الحبس والغرامة البسيطة، ومع قدوم الأشقاء المصريين راجت تجارة الحشيش، وانتشرت بشكل كبير، فغالبيتهم كان لهم تاريخ حافل بتجارة وتعاطي الحشيش، ما اضطر الرئيس عبد الناصر إلى إصدار القانون رقم /182/ لعام 1960 المتعلق بتجارة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار بها، وفرض عقوبات جنائية كبيرة تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
وكان في دمشق ثلاثة تجار مشهورين بتجارة الحشيش، أحدهم يدعى أبو دياب الموالدي، وكان محله في جادة السنابية، ويقصده بعض الشباب العاطلين عن العمل، والراغبين بالترفيه عن أنفسهم بتعاطي كميات قليلة من الحشيش، ولدى تعيين المشير عبد الحكيم عامر نائباً لرئيس الجمهورية، ورئيساً للإقليم الشمالي السوري وقائداً عاماً للجيش فيه، أرسل مرافقه الملازم عبد المنعم أبو زيد إلى أسواق دمشق ليبحث له عن تاجر يبيع الحشيش، الذي اعتاد أن يتعاطاه في الإقليم المصري، استطاع هذا الملازم أن يتوصل إلى محل أبو دياب، وطلب منه عينة من الحشيش، وبالفعل قام أبو دياب بإعطاءه عينة من الحشيش المتوفر لديه، دون أن يعلم لمن ستذهب هذه العينة. أخذ الملازم العينة وتوجه بها إلى قصر الضيافة، محل إقامة المشير عبد الحكيم عامر، أبدى المشير إعجابه بهذه العينة، وطلب من الملازم عبد المنعم، أن يشتري له (أقتين) من هذا الحشيش، وهذا ماكان.
بعد مضي فترة على هذه الحادثة جاء أنور السادات بزيارة إلى الإقليم السوري، فذهب الملازم عبد المنعم أبو زيد إلى دكان الموالدي، وبرفقته سكرتير أنور السادات ويدعى فوزي عبد الحافظ، وطلب منه إعطاءه عينة من الحشيش من نفس النوعية التي اشتراها منه في المرة السابقة، أعطى الموالدي قطعة من الحشيش وزنها 200 غرام إلى سكرتير السادات، ولكن هذا السكرتير مالبث أن عاد إلى دكان الموالدي، وقد انمسخت قطعة الحشيش بين يديه من 200 غرام إلى 50 غرام، وقال له أنها لم تعجب معلمه (ويقصد أنور السادات)، ولما سأله الموالدي عن باقي الكمية، قال له بأنها استهلكت عند تجربتها، فأقسم له الموالدي بالطلاق بأنها من نفس النوعية التي باعها للملازم عبد المنعم أبو زيد، إلا أن سكرتير السادات أصر على إعادة القطعة واستعادة كامل ثمنها.
لم تمض على هذه القصة أيام معدودة، حتى قامت أجهزة المخابرات المصرية بالإيعاز إلى أجهزة المخابرات السورية، باعتقال تاجر الحشيش أبو دياب الموالدي، بحجة اتهامه بأنه يصرح على الملأ بقيامه ببيع الحشيش لضباط مصريين، على درجة عالية من المسؤولية، ولمح إلى بيعها للمشير عبد الحكيم ولأنور السادات.
تسلم ضابط المخابرات سامي جمعة التحقيق بهذه الجريمة، فأحضر الموالدي، وسأله عن الحادثة، فأخبره أنه لم يقل شيء، وسرد له قيام الملازم أبو زيد مرافق المشير باصطحاب شخص مدعبل (قصير) إلى متجره، وطلب منه إعطاءه عينة من الحشيش لمعلمه، وكيف أعاد له كمية الحشيش منقوصة، بعد أن استهلك أكثر من ثلاثة أرباعها.
اتصل سامي جمعة برئيس مكتب المخابرات المصرية الملحق بالمستشار عبد المنعم رياض، وسأله إن كان بإمكانه الحضور لمكتبه برفقة فوزي عبد الحافظ سكرتير السادات، ليطلعه على حقيقة القصة، وبالفعل قدم عبد الرحيم عزت مدير مكتب المخابرات المصرية وبرفقته فوزي عبد الحافظ، وكان كما وصفه أبو دياب الموالدي قصيراً سميناً، وما إن رأى فوزي عبد الحافظ الموالدي حتى هجم عليه وقال له : حاخرب بيتك ... حوديك بستين داهية ... حاشنقك ....
إلا أن الموالدي الذي كان ضخم الجثة، دفع عبد الحافظ دفعة قوية وقال له : روح هيك ... مابيقطع الراس إلا اللي ركبها ... ايدك وماتعطيك ... انتوا جماعة عونطجية مابتنخدموا ... الحق علينا اللي عم نخدمكم ... هاد العونطجي (مشيراً إلى عبد الحافظ) أخذ 200 غرام حشيش ورجعها 50 غرام وشفط الباقي ...
ولما اشتد النقاش بين الطرفين، طلب سامي جمعة من عبد الرحيم وعبد الحافظ، أن يذهبا معه إلى غرفة ثانية، حيث قدم لهما القهوة، وقال لهما، لقد سمعتما ماقاله الرجل، وعقوبة تاجر الحشيش لدينا لا تتعدى الحبس لأشهر قليلة، وأخاف أن يقوم بفضح كل مالديه في السجن، وتصبح قصة السيدان عبد الحكيم عامر وأنور السادات على كل لسان، هذا ما عدا أنه سيخرج أمام (القباضيات) الذين يعرفونه، ويخبرهم بكل القصة، وفي هذا إساءة للمشير والسيد أنور، فما رأيكما؟
فطلب منه الاثنان تدبر الموضوع دون أي فضائح، وهذا ماكان، حيث قام سامي جمعة، بإجراء مصالحة بين الطرفان. فيما بعد هذه القصة، أصبح محل الموالدي مقصداً لكبار العسكريين والمدنيين المصريين وخصوصاً الفنانيين، كما أصبح الموالدي نفسه من أعز أصدقاء عزت عبد الرحيم والمقدم علي شفيق مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر .
هذه قصة من قصص تعاطي الحشيش، أما عن قصص الاتجار به، فقد كان المصريين يجدون في الإقليم السوري، سوقاً كبيراً لترويج الحشيش في الأوساط المصرية التي انتقلت إلى سورية وعانت من نقص هذه المادة، كان عبد المحسن أبو النور الذي شغل منصب قيادة القوات المشتركة السورية المصرية، والملحق العسكري في السفارة المصرية قبل الوحدة، قد رفع إلى رتبة عميد إبان الوحدة وتسلم منصب مساعد قائد الجيش الأول في الإقليم السوري، وقد امتهن العميد عبد المحسن أبو النور تجارة الحشيش طيلة فترة الوحدة، فكان يقوم بتهريب الحشيش بين دمشق والقاهرة، من خلال الحقائب الرسمية.
وفي إحدى المرات، كان مساعده يقوم بأخذ الحقائب في "مطار دمشق" فتم افتضاح أمره من قبل آمر الضابطة الجمركية المقدم طلعت حسن، الذي قام بمصادرة الحشيش وتوقيف المساعد حسب الأصول، ولما عرضت القضية على القاضي الأستاذ عبد الوهاب الأزرق، قام عبد المحسن أبو النور بالتوسط لإخراج مساعده، إلا أن القاضي عبد الوهاب الأزرق، رفض إخلاء سبيل المساعد قبل الانتهاء من التحقيقات، فما كان من عبد المحسن أبو النور، إلا أن سعى ووضع كل ثقله لدى المستشار محمود رياض لإقناع الرئيس عبد الناصر بإحالة القاضي الأزرق على التقاعد بحجة تحريضه على الوحدة، وهذا ماكان، والمضحك بالموضوع بأن عبد المحسن لم يكتفي بتسريح القاضي بل استعاد الحشيش المصادر، وأخلى سبيل مساعده أيضاً.
من كتاب قصاصات غير قابلة للطعن - للمحامي أحمد وليد منصور .
وسوم: العدد 922