الحرب الأهلية اللبنانية لم تحصل!
هذا هو الاستنتاج الذي خرجت به النخب اللبنانية الجديدة- القديمة الحاكمة. لم تكن حربنا، بل كانت «حرب الآخرين» على أرضنا، كما كتب شيخ الليبراليين وكبير الصحافيين اللبنانيين غسان تويني.
كانت حرباً لبنانية -فلسطينية، قال قادة «الجبهة اللبنانية»، لكن اللبنانيين الذين قُتلوا في «السبت الأسود» وعلى حواجز الخطف العشوائي، وقصف الأحياء السكنية، كانوا مجرد «فرْق عملة»!
كانت حرباً ضد «صهاينة الداخل»، ولا بأس في أن يسقط بعض الضحايا في الدامور والعيشية وإلى آخره…
مذابحها كانت للتحرير، من تل الزعتر إلى شاتيلا وصبرا إلى مذابح الجبل…
كانت كما نشاء، شرط أن نستنتج أننا أبرياء، ونبحث عن كبش محرقة، قد يكون فلسطينياً لاجئاً أو عاملاً سورياً، ونلبّسه كل الجرائم.
كانت كل شيء، أي لم تكن شيئاً، أما ذاكرة الضحايا فيجب أن تصمت، لأن لا مكان لها. فلبنان بعد «الطائف» كان مشغولاً بالبناء والإعمار. وكانت حصيلة سياسات الصمت، هذه الكارثة التي نعيشها اليوم، والتي سوف تدخل تاريخ الحرب بصفتها أشدّ لحظاتها وحشية.
كانت كأن لم تكن، تقول أيديولوجية النسيان، التي رُوِّج لها بعد اتفاق الطائف.
ومع ذلك، ورغم كل الحجج، فالحرب كانت والمجتمع اللبناني جعل من يوم 13 نيسان – أبريل يوماً للذاكرة.
13 نيسان – أبريل 1975 في الذاكرة اللبنانية هو اليوم الذي بدأت فيه الحرب الأهلية، ولعل أكثر الشعارات رواجاً هو: «تنذكر وما تنعاد».
هذا اليوم مجرد افتراض، والاحتفال به هو تعبير عن العجز. المنطق يقول إن الاحتفال يجب أن يكون في ذكرى نهاية الحرب الأهلية وليس في ذكرى بدايتها. لكن ولأن الحرب، التي لم تحصل لا تنهي، فإن شبحها لا يزال يحوم حولنا.
الاحتفال ببداية الحرب فقد معناه، وصار مجرد رطانة تبشيرية حول السلام. فأمراء الحرب جلبوا معهم إلى السلطة ممارسات التشبيح والبَلْص. كما صارت الانقسامات الطائفية وسيلة النظام الاستبدادي السوري، الذي كُلف بإحلال السلام في لبنان لجعل شبح الحرب غطاء للهيمنة والنهب المنظّم.
13 نيسان- أبريل 1975، هو يوم وهمي، الحرب لم تبدأ مع مذبحة بوسطة عين الرمانة، لأن الحرب كانت هنا من زمان.
هناك أكثر من افتراض للتأريخ للحرب.
يقال إنها بدأت سنة 1968، عند دخول طلائع فدائيي حركة فتح إلى الجنوب، ويقال أيضاً إنها بدأت سنة 1972، مع إضراب عمال معمل غندور وسقوط الشهيد يوسف العطّار برصاص قوى الأمن اللبنانية.
قد تكون البداية عام 1970، مع صعود «الحلف الثلاثي» الذي ضم كميل شمعون وبيار الجميل وريمون ادة إلى السلطة، وتصفية الإرث الشهابي. وقد جاء هذا التطور كنتيجة مباشرة لهزيمة الخامس من حزيران 1967، وضمور الدور الإقليمي لمصر الناصرية.
وقد تكون البداية عام 1958، في الحرب القصيرة التي دارت في نهاية عهد كميل شمعون. التسوية الأمريكية المصرية للحرب أنتجت انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. الشهابية كانت عملية إصلاحية في داخل النظام الطائفي، وهي لم تخرج عن الثوابت التي وضعها ميشال شيحا لمفهوم دولة التجار التي تُمسك بها المارونية السياسية. انتهت حرب 1958 من دون أن تنتهي، لذا كان ضمور دور راعيها المصري بداية سقوط المشروع الشهابي برمته.
بل نستطيع أن نعود إلى القرن التاسع عشر لنشير إلى أن الحرب بدأت عام 1860، مع الحرب الطاحنة التي انفجرت في جبل لبنان، وامتدت إلى البقاع ومنها إلى دمشق.
دويلة المتصرفية نشأت في خضم حرب أهلية، لكن نهاية هذه الحرب لم تكن على أيدي من خاضها، بل جاءت نتيجة تدخل دولي، صنع دويلة غير مستقلة كتدبير مؤقت، في انتظار نهاية الدولة العثمانية.
لبنان الكبير الذي أنشأه الفرنسيون عام 1920، قام بتوسيع حدود المتصرفية، فورثت الجمهورية اللبنانية مرض الطائفية، وقامت بتحويله إلى بنية سياسية قائمة على أيديولوجية الحرب الأهلية المستمرة التي تضبط أجهزة الدولة إيقاعها، كأداة في مواجهة تحرك الطبقات العمالية والفقيرة. الدولة أداة توازن مؤقت بين القوى الدولية والإقليمية، التي تنعكس في توازن داخلي بين القوى الطائفية.
إن أساطير تأسيس لبنان من فخرالدين المعني الثاني إلى بشير الشهابي، ليست سوى أوهام. فلبنان نشأ ككيان سياسي نتيجة حرب 1860 التي نطلق عليها اسم الفتنة. وهو يحمل في بنيته السياسية أمراض هذا التاريخ.
السؤال الذي لا جواب له هو لماذا صمت رواد النهضة عن حرب 1860، وخرجوا منها باستنتاجات تبشيرية دعوية عن الوطنية والقومية، ولم يملكوا الجرأة أو القدرة على كتابة تلك الحرب، واستخلاص دروسها.
نشأ الكيان اللبناني في الصمت، وهو اليوم يُحتضر ملفوفاً بصمت مشابه. نعود إلى سؤال الحرب، لا كي نسأل ماضينا القريب والبعيد فقط، بل كي نسأل حاضرنا.
فالنظام الذي نشأ بعد الطائف، وأعيد إنتاجه بعد انتفاضة 14 آذار – مارس 2005، هو استعادة لنظام التوازنات الإقليمية التي تنعكس على التوازنات الداخلية الطائفية.
لكن التوازن الجديد الذي بني بعد اتفاق الطائف كان مجموعة من التوازنات المسلحة، التي لم تتوازن وانهارت كلياً بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003.
ونحن نعيش منذ 2003، في ظل نظام سياسي هو نظام الحرب الأهلية؛ أي نظام يتداخل فيه الخارج بالداخل، فالداخل خارجي الانتماء والخارج داخلي التجلّي.
هذه هي اللعنة التي حولت النظام إلى توازنات بين عصابات المافيا واللصوص، تحميه ميليشيا مدججة بالسلاح، ويهدد اللبنانيين بالحرب كي يشتري صمتهم وذلهم وخوفهم.
هل هذه اللعنة التكوينية أبدية؟
لقد وصل نظام الحرب الأهلية إلى حضيضه، وصار اليوم نظام إفقار وتجويع وتخويف، وهو نظام يواصل هيمنته رغم الصراعات الضارية بين مكوناته، يشرعنه مجلس نيابي يمثل المصارف، وتشكل ميليشيا حزب الله درعه المسلح، ويلعب فيه رئيس الدولة دور شمشون الذي يستعد لتدمير الهيكل على رأسه ورؤوس الجميع.
لبنان اليوم أمام خيارين:
إما الزوال كدولة، وسيادة قانون الضباع. خطر الزوال لا يوازيه سوى الوقوع في قبضة حكم ديكتاتوري عسكري أو شبه عسكري يحاول إعادة إنتاج النظام القديم.
وإما الخروج من هذا الركام إلى أفق علماني ديمقراطي، يؤسس للبنان جديد متحرر من التبعيتين الخارجية والداخلية.
وسوم: العدد 924