كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات الكنز الثاني
الكَنْـزُ الثاني: لا تُقَدِّموا بين يَدَي اللهِ ورَسولِهِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
(الحجرات: 1).
هذه الآية الكريمة تمثل الأصل الأول الذي تقوم عليه حياة المسلم.. هو أنّ التلقي في أمور الحياة ونظامها، لا يكون إلا من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.. فالحكم في شؤون حياتنا كلها، هي لله عزّ وجلّ وحده، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.. هي طاعة له وحده لا شريك له: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..) (النساء: من الآية80).
تبدأ (سورة الحُجُرات) بالنداء للمؤمنين، تمهيداً لما سيُلقى عليهم من تكليف، فيقول الله عزّ وجلّ لهم: يا مَن آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ونبياً، وبكتابه دستوراً.. يا هؤلاء.. لا تقطعوا أمراً، ولا تقوموا بأي فعلٍ أو عملٍ، ولا تُبدوا رأياً أو قولاً في قضيةٍ من قضايا دينكم وحياتكم وتنظيمها.. حتى يحكمَ اللهُ ورسولُهُ بها.. أو يأذن بذلك.. واحذروا مخالفة أمره ونهيه عزّ وجلّ.. فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وهو يسمع أقوالكم، ويعرف أفعالكم ويعلم بها.. فالتزموا منهجه وشرعه.. فإن خرقتم هذه القاعدة الإيمانية، فإنكم بذلك ترفعون من منزلتكم إلى سويّة منزلة رب العالمين الحاكم المشرّع الآمر الناهي.. أو ترفعون من منزلة مَن تُطيعونهم من البشر من دون الله.. إلى منزلة الله عزّ وجلّ الواحد الأحد.. وبذلك تقعون في الشرك وتأثمون!..
إذن.. فالآية الكريمة توضّح لنا مفهوم العبودية لله عزّ وجلّ وحده لا شريك له، وضرورة الإذعان لمنهجه وشرعه في نواحي الحياة كلها.. وفي ذلك قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).
هكذا إذن: تسليم مطلق لله عز وجل ولـِـحُكمه ومنهجه ودينه.. ومن غير أي حرجٍ نفسيّ!.. ويتأكد لنا ذلك في قوله عزّ وجلّ أيضاً:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36).
وكذلك في قوله عزّ وجلّ:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران 32). هكذا: لا يحب الكافرين، أي لايحب الذين لايطيعون اللهَ ورسولَه وشرعَه ومنهجَ الإسلام الذي ينظم حياة الناس كلها، بكل جوانبها.
لنتدبّر في نتائج (عدم) الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ
يمكن أن نجمل نتائج عدم الالتزام هذا.. بما يأتي:
التناحر، والتنازع، والاختلاف، والضلال، والوقوع في الشرك، والخضوع للأحكام الوضعية الجاهلية التي يضعها البشر.. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).
لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآية الكريمة
1- وجوب الطاعة المطلقة لله ورسوله، ووجوب التقيّد بمنهج الله عزّ وجلّ وشرعه.
2- الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ من علامات صحّة الإيمان أولاً.. ومن علامات تقوى الله عزّ وجلّ ثانياً.
3- التطاول على دين الله عزّ وجلّ وشرعه ومنهجه.. برفع منزلة البشر والطواغيت والطغاة إلى منزلة الله سبحانه وتعالى، وذلك بالاعتراف بشرائعهم، أو بوضع التشريعات والمناهج للناس والادعاء بأنها أحكم أو أعدل من منهج الله عزّ وجلّ وشرعه.. هذا التطاول، إنما هو شرك بالله جل وعلا.
كيف امتثل المؤمنون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة؟!..
فور نزول هذه الآية الكريمة، ما عاد أحد منهم يُدلي برأيه في حكمٍ أو أمرٍ قبل أن يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، وهذه بعض الأمثلة:
1- (روى أحمد وأبو داود والترمذي.. عن معاذٍ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: بمَ تحكم؟.. قال: بكتاب الله سبحانه وتعالى.. قال: فإن لم تجد؟.. قال: بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: فإن لم تجد؟.. قال: أجتهد رأيي ولا آلو (لا أقصّر).. فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم).
2- (عن أبي بكرة الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في حجة الوداع: أي شهرٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس ذا الحجة؟.. قلنا: بلى، قال: أي بلدٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس البلدةَ الحرام؟.. قلنا: بلى، قال: فأي يومٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت.. فقال: أليس يومَ النحر؟.. قلنا: بلى)!..
هكذا إذن.. فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحرّجون من الإجابة، على الرغم من معرفتها!.. لاحظوا قولهم: (الله ورسوله أعلم)، وذلك خشيةً من أن يكونَ قولهم تقدّماً بين يدي الله ورسوله!..
3- (قَدِمَ "عَديُّ بنُ حاتم" على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو نصرانيٌّ فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة 31)، قال : فقلتُ له: إنَّا لسنا نعبدُهم، قال: أليسَ يُحرِّمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويُحِلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه، قال: قلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتُهم). (ابن تيمية).
إذن: امتثال الصحابة رضوان الله عليهم، كان التزاماً كاملاً بمنهج الله عزّ وجلّ.. مع أدبٍ جمٍّ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو ناقل الشرع والمنهج الذي يُنظِّم حياة الناس، عن الله سبحانه وتعالى.
وسوم: العدد 925