انتفاضة في القدس وضجة في بغداد
لا وجود لأي علاقة بين انتفاضة المقدسيين في وجه اعتداءات المستوطنين ووحشيتهم وهتافاتهم العنصرية، وبين الضجة التي أثيرت في بغداد حول الشاعر سعدي يوسف.
العلاقة الوحيدة هي التزامن.
هل هذا التزامن مجرد مصادفة؟ أم أنه يؤشر إلى زمنين عربيين مترابطين ومتداخلين. فلولا الانحطاط العربي ما كان في إمكان العنصريين الصهاينة أن يطلقوا العنان لغرائزهم، فيقتحموا شوارع القدس وهم يهتفون: «الموت للعرب». ولولا هبة المقدسيين لساد الموت والاندثار، ونجح الاستبداد العربي وأسياد زمن الطوائف والمذاهب، في تطبيعنا مع استبدادهم ومع سيدهم الصهيوني.
الشاعر سعدي يوسف طريح الفراش في المستشفى، ووزير الثقافة العراقي حاول أن يقوم بمبادرة للاهتمام به، فانطلقت أفاعي الحقد.
انتفاضة المقدسيين واقعية، نراها كل يوم مع شبان المدينة العتيقة وهم يواجهون الموت بالتمسك بالحياة، أما ضجة بغداد فوهمية، وليست سوى دخان من الكلام الذي يعبر عن مرحلة انهيار القيم وموت المعاني.
حكاية القدس لا تحتاج إلى مَنْ يرويها، فهي الرواية والراوي في آن معاً. أما حكاية بغداد، والاحتفال السادي الذي رافقها حين تم التشهير بشاعر العراق سعدي يوسف، على خلفية محاولة وزير الثقافة العراقي القيام بواجبه تجاه أكبر شاعر عراقي حي، ثم تراجعه المخزي أمام أصوات حرّاس الدين (الرافضي) والاحتلال، فيجب أن تروى لتكون عبرة لمن اعتبر.
في القدس رأى جبرا إبراهيم جبرا مدينته تشعّ، ورسم في رواياته ضوء صخرها الوردي الذي يتجلّى في ماء «آبارها الأولى».
وعندما نرى الصور الآتية من القدس، والمسيرات الليلية التي تتحدى شرطة الاحتلال وتواجه زعران المستوطنين، نرى ضوء المدينة في العيون، كأن أهل القدس يضيئون ليل فلسطين الطويل بعدما تحولوا إلى صخور تقبض على الشمس.
في القدس أرى بلقيس كما رسمها الفنان المقدسي كمال بلّاطة، وهي تمشي على الزجاج الذي صار ماء، وأكتشفُ معها سرّ المدينة التي صارت اليوم سُرَّة أرض العرب الغارقة في العتمة.
القدس في مواجهاتها تعلن اليوم أنها صارت أجمل المدن. جمالها المغطى بالأسى يقول إن من يريد أن يرى فلسطين، عليه أن يرى القدس، ويشيح النظر عن صور حاولت ابتلاع فلسطين بمشهديات سلطة لا سلطة لها، أو بانتفاخة وهمية يصنعها رأسمال ريعي ليس سوى فقاعة نفطية في بلاد مُهددة بالخراب.
هنا تقع فلسطين التي لم تقع حين وقع أسيادها الجدد في وهم السلطة، وهنا تستمر المواجهة وتتجدد الانتفاضات التي تحمي شجرة الحياة وترويها بالدم والألم.
في القدس انتفاضة وفي بغداد ضجة.
فالضجة المفتعلة التي أثيرت في بغداد حول مرض الشاعر سعدي يوسف، ليست سوى تعبير عن الانحطاط العربي في زمن أسياد الطوائف، وهي نقيض صرخات شباب القدس الذين يقتحمون سماء الحرية بقبضاتهم وحناجرهم.
كم كان جميلاً ذلك الإنشاد المقدسي الذي تصادى مع صوت الساروت وهو ينشد لحمص «جنة جنة جنة» كأن المدينة المنكوبة بالاحتلال تفتح ذراعيها لتضم نكبات العرب، وتعيد للصوت العربي الذي يختنق تحت ركام الاستبداد، ألقه ومعناه.
تبدو ضجة بغداد وكأنها ضوضاء فارغة من المضمون، ووصمة في مسيرة الأدب العراقي الحديث والمعاصر. هذا الأدب الذي بنى للشعر العربي آفاقاً جديدة مع السياب ونازك الملائكة والبياتي وسعدي يوسف وسركون بولس، وكان نافذة ضوء في زمن الأسئلة والخيارات الصعبة.
عراق السياب ومطر قصائده، يشعر اليوم بالوحدة في بغداد والبصرة، لأن من يتسيدون على العراق يستمتعون بعارهم.
من قال لوزير الثقافة العراقي السيد حسن ناظم بأن سعدي، الذي يصارع السرطان بكبرياء الصمت في لندن، يحتاج إلى رعاية؟
ربما كان الوزير حسن النية، واستفاق فيه ما تبقى من وجدان، لكن بيانه التراجعي وسط حملة الظلاميين الذين يريدون إعطاء «الأخضر بن يوسف» درساً في الخساسة، جعل منه ومن الثقافة التي يمثلها أضحوكة.
كتب الوزير اعتذاراً هو أشبه ما يكون بمضبطة اتهام للنظام السياسي العراقي الذي استولده الاحتلال الأمريكي، وسقط في أيدي الأصوليين الذين كرهوا سعدي، لا لأنه «الشيوعي الأخير» فقط، بل لأنه وقف شبه وحيد في مواجهة الغزو الأمريكي لبلاده.
قال الوزير في اعتذاره: «لكنّ إيماني بقيمي الدينية المقدّسة واحترامي وتقديري لمشاعرِ الكثرةِ الكاثرةِ من الناسِ أهمُّ من تعاطفي، ذاك لإيماني كمسؤولٍ في الدولةِ بأنّ القيمَ المقدّسةَ ومشاعرَ الناسِ أولى بالمراعاةِ دائماً من أيِّ اعتبارٍ آخرَ، لذلك أقدّمُ اعتذاري لكلِّ من شعرَ بألمٍ في ضميرِهِ الوطنيّ والدينيّ والإنسانيّ».
ألم في ضمائركم!
يا عيب الشوم.
لو كانت ضمائرهم حية لسمعنا صراخ كل حكام العرب من الوجع.
لا أستطيع أن أقول يا سيادة الوزير سوى أنك تثير الشفقة، أما ضمائر من قاد الحملة على سعدي يوسف وهو طريح الفراش، مجللاً بهالتي الشعر والشيخوخة، فلا تستحق سوى الاحتقار.
سعدي يوسف ينظر من خلال ضباب الألم فيرى القدس، ويستعيد بيروت والمهدي بن بركة، ويستلقي تحت النخلة:
«من أين جاءت نخلة البصريّ كي ترخي جدائلها عليه/ وتأمرَ الأطيار أن تشدو قليلاً باسمه/ الشعراء قد صمتوا/ عجائبُ/ كيف يصمت عن أنين النخلة الشعراءُ/ كيف يكون أولهم كآخرهم أصمّ وأبكم».
الشاعر الذي كان «يقاسمه نبي شقته» قال الكلمة الفصل في قصيدته «مديح إلى مؤرخ مغربي»:
«نحن خلف العربةْ/ قد تعلقنا وعُلقنا قناديلَ/ ولكن من زجاج البلد المخزن حيث المأدبة/ حلقةٌ من زعماء البدو سكارى/ يحكمون الساعة المنقلبة».
هناك أيها الشاعر في باب العمود والشيخ جراح وباب الساهرة، هناك في مدينتنا، يمتلك الناس كبرياء الأشجار وصلابة الصخر ووهج النور، ويقاومون ساعة العرب المنقلبة.
وسوم: العدد 926