رمضان وراء الأسوار
نحن الآن في المهجع 29 في سجن تدمر الصحراوي في السابع من شهور عام 1982.
لك أن تتصور درجة الحرارة هنا في هكذا مهجع مصنوع من البيتون بشكل كامل تقريبا.. يكتظ، بل يُرصف فيه ما يقارب المائتين من الكائنات البشرية رصفاً! لو أتيح لك أن تدخل إليه كما أتيح لي - لا سمح الله - لحسبت أنك في حمّام ولربما فكرت بعد أن تمعن النظر في حالة الناس أن مَسَّاً قد أصاب عقولهم وأنك داخلٌ للتو إلى مصح نفسي ...
كل قد خلع ثيابه من فوق السرّة وجلس عاريا من نصفه العلوي وحمل بيده "بشكيرا" يلوح به أو قطعة من "الكرتون" يحركها حول وجهه وأجزاء جسده بحركات أشبه ما تكون بحركات المشعوذين لا تلبث أن تدرك أنه يصنع بذلك مروحة يدوية يخفف بها عن نفسه شدة الحرّ الذي جعل الناس هنا جميعا يتصببون عرقا .. ستزداد دهشتك حين ترى عددا من أفراد المهجع قد وقفوا متقابلين مثنى مثنى يحملون أغطية الأرض التي تسمى عوازل يؤرجحونها بينهم لتحريك الهواء الساخن المشبع بأبخرة التعرق المتصاعد من الأجساد المتلاصقة والتي توشك أن تتحول إلى ضباب يكاد يحجب الرؤية في بعض الأحيان ما يجعل عملية التنفس في غاية الصعوبة خصوصا بالنسبة لمرضى الربو الذين يُفسح لهم المجال تحت الشراقة بطلب من المسؤول الصحي في المهجع ! … كثيرا ما كنت ترى بعض الأخوة يلوذون بالباب يقربون أنوفهم من الشقوق الموجودة على أطرافه يستروحون عبرها بعض الهواء النقي (على حد تعبيرهم) يرد إليهم الروح …!
ولك أن تتخيل أيضاً حالة الصائم لمدة خمسة عشرة ساعة في يوم قائظ من أيام تموز الذي يغلي فيه الماء في "الكوز" كما يقال حين يعلم أن مخصصاته من الماء هي كوب واحد فقط يطفئ به ظمأه بسبب انقطاع الماء الذي يزداد عادة في مثل هذه الأوقات ! - هذا الكأس الذي لا يأتي هكذا مجانا بالطبع! بل يأتي بعد استنفار في المهجع وقرع الباب مرات كثيرة وهو هنا لا يقرع إلا في حالات الخطر لما يترتب على ذلك من ردة فعل الزبانية الذين يهرعون حاملين بأيديهم سياطاً كأذناب البقر ليسمحوا للمهجع بِمَلْء خمس بيدونات سعة 20 لترا للبيدون الواحد فقط بعد أن يدفع رئيس المهجع وخمسة من الفدائيين الثمن خرائطَ تصنعها السياط على ظهورهم الملتهبة من شدة الحر أصلاً ..
أما في عام 87 فلك أن تتصور معاناة الصائم عندما أعلن عن منع الصيام بشكل رسمي في السجن وهو يجهز للسحور (القضوضة وعلبة الماء) تحت البطانية في مغامرة قد تعرضه في اليوم التالي للدولاب وربما لما هو أسوأ من الدولاب فيما لو كشف أمره من قبل الحرس الذي يتردد ليحصي حركة السجناء النائمين وسكناتهم من فتحة في السقف تدعى "الشراقة" من حين لآخر..
معاناة من نوع آخر وقت الإفطار تتمثل في كيفية إخفاء الطعام الذي يُدخل عمدا في وقت مبكر حتى لا تقع عليه عين الرقيب فيصب على القاطنين في المهجع جام غضبه حتى يحين وقت أذان المغرب مما يحتاج إلى تدابير خاصة أيضاً من تقسيم المهجع إلى مجموعات وتناول الطعام بشكل متناوب في مكان مستور بعيدا عن رقابة الحرس التي تُشدّد في مثل هذا الوقت من النهار ..
طبعاً لا حاجة بنا هنا لنتحدث عن التفقد والتفتيش والتنفس أعني "قطع الأنفاس والحلاقة والحمام " فتلك فصول من التعذيب معروفة في رمضان وغير رمضان ...
بينما الناس خارج الأسوار في أماكن أخرى من هذا الوطن المحكوم بالغفلة والجهل مما يدفع الجميع ثمنه الآن يجلسون مسترخين "مبَلِّهين" أما شاشات التلفاز يستمتعون بما يقدمه لهم تلفزيونهم العربي السوري من مسلسلات رمضانية شيقة تدور أحداثها في الغالب عن قصة عشق مؤثرة لفتاة منعها أهلها من الهروب مع حبيبها تشتعل لأجلها قلوبهم وتبقيهم قلقين لما يمكن أن يكون قد حصل لها حتى موعد الحلقة القادمة! … مسلسلات كانت تبرع فيها دولة الرئيس المؤمن لتخفف عن الناس معاناتهم في هذا الشهر الفضيل ولا تنس جوقات المنشدين التي تصدح ندية بمديح خير البرية صلى الله عليه وسلم جنبا إلى جنب مع شريكه النبي الجديد حافظ الأسد مما تجود به حناجر فرقة توفيق المنجد وحمزة شكور ضمن كومة من المومياءات أصحاب الطرابيش الحمراء الطامحين بخلعة سنية من يد سيادة رئيس الجمهورية في وجبة إفطارهم السنوية…. ويأتيك بعد ذلك أحد الميتين سريريا من الناحية الإنسانية ليقول : شو كان ناقصنا !؟ كنا عايشين!
ويشهد على كلامه فضيلة الشيخ العلامة الذي يشيد بقوة إيمان حافظ الأسد صاحب هذه الفظائع وحكمته وتأييد الله له بنصره ويقسم بأنه قد رأى ابنه باسل المقتول في الجنة ...
ذلك الغيم الأسود هو الذي جلب لنا هذا المطر السَوء...
أخرجنا الله من سجن الغفلة والخوف والعبودية لغيره حتى تكون عبوديتنا خالصة له نتحرر بها من عبودية ما سواه وننعم بحياة كريمة آمنة لا زلنا نحلم بها منذ زمن طويل…
وسوم: العدد 926