ليبيا: انقلاب السحر على الساحر
تقدّم ليبيا الراهنة الكثير من المعطيات التي تبرهن على الأمثولة العتيقة حول انقلاب السحر على الساحر، بمعنى ارتداد السياسات، سواء أكانت تكتيكية مرحلية أم ستراتيجية بعيدة المدى، إلى نقائض للأغراض التي استُحدثت من أجلها؛ وبصرف النظر عن طبائع التمويه أو التضليل أو التلفيق التي اكتنفت، أو استوجبت، استحداثها.
فماذا يقول المرء عن حصاد فرنسا الليبي، ابتداءً من انكشاف فضائح الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي المالية والأمنية مع نظام معمر القذافي؛ وليس انتهاء بخسارة حليف باريس الطيّع الرئيس التشادي إدريس ديبي، الذي أجهزت عليه الميليشيات ذاتها التي تدربت في صفوف المشير الانقلابي خليفة حفتر، الأثير لدى ساكن قصر الإليزيه الحالي إيمانويل ماكرون؟
وما الحصاد الأمريكي اليوم، إذْ تُعاد الذاكرة إلى الرئيس الأسبق باراك أوباما في الترخيص لعمليات الحلف الأطلسي والانضمام إليها، وفي مباذل وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون والسفارة الأمريكية في طرابلس؛ مروراً بخطّ الرئيس السابق دونالد ترامب في تفعيل وإعادة تشغيل حفتر، عميل المخابرات المركزية السابق في نهاية المطاف؛ وليس انتهاءً، هنا أيضاً، بتلعثم إدارة الرئيس الجديد جو بايدن حول الملفّ بأسره، وكأنّ الولايات المتحدة لا تاريخ لها في ليبيا، البتة؟
ثمّ إذا منح المرء ذاته بعض فضائل الشكّ إلى رئيس الحكومة الانتقالية عبد الحميد دبيبة، صحبة وزيرة خارجيته نجلاء المنقوش، لجهة الإخلاص في الأداء والنزاهة في النوايا؛ فأين يُوضع تضادّ التصريحات وتناقضها وتلاطمها، بين الأول الذي يدعو إلى التمسك باتفاقية ترسيم الحدود مع تركيا، مقابل الثانية التي تعلن وضعها في خانة سحب المرتزقة؟ ثمّ، استطراداً والحال هذه، ما الذي يتبقى من هوامش اعتراض على تحركات حفتر، أو أمراء الحرب وقادة الميليشيات ووكلاء مصر والإمارات وروسيا على أربع رياح الأرض الليبية؟
وكيف تُفسّر العجيبة التي اجترحها مجلس النوّاب الليبي مؤخراً، حين أعرب عن ردّ فعل رافض شديد اللهجة ضدّ البيان المشترك الذي صدر عن سفارات أمريكا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا؛ وفيه اعتبرت الدول الخمس أنّ الوقت الحالي ليس مناسباً لإدخال تغييرات في المناصب السيادية يمكن أن تعطّل عمل الهيئات المكلفة بالتحضير لانتخابات نهاية العام، طبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2570؟ صحيح، تماماً، أنّ البيان تدخّل صريح في الشؤون الداخلية الليبية، ولكن يا سبحان الله! أهذا هو التدخل الوحيد في الشأن الليبي لهذه الدول، وسواها كثيرة وعديدة؟ وهذا هو التدخل السافر الوحيد، الذي استشاط له غضب السادة النوّاب؟ ثمّ أليست أمريكا وفرنسا وبريطانيا في عداد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، صاحب القرار 2570؟
ومع كلّ أمنيات التوفيق للحكومة الليبية المؤقتة في مغالبة العراقيل والصعاب الكثيرة القائمة لتوّها، والتي سوف تنشأ وتتكاثر خلال الأسابيع والأشهر المقبلة؛ فإنّ بعض تفاصيل المشهد الراهن، خاصة تلك التي تُحيل إلى أمثولة السحر المنقلب على الساحر، تشدّد من جديد على الحقيقة الكبرى الماثلة منذ عام 2011 بعد مقتل القذافي واندلاع الحروب بين شرق وغرب وشمال وجنوب: أنّ الشعب الليبي هو الضحية الأولى، وهو بالتالي الخاسر الأكبر.
وثمة، للمفارقة المحزنة، ما يذكّر ببعض «فتوحات» القذافي، في السلوك والخيارات والمواقف واللغة، خاصة خطبته الشهيرة التراجيكوميدية في القمة العربية الـ 17، ربيع 2005؛ حين كشف النقاب عن كون أرييل شارون عميلاً فلسطينياً، وأنّ الديمقراطيات العربية والآسيوية والأفريقية (وبينها مملكة أوغندا، مثلاً ساطعاً!) هي الديمقراطيات الحقّة مقابل «الديمقراطيات الدكتاتورية» في الدول الغربية حيث الشعوب «كأنها كلاب تنبح!».
صحيح أن دبيبة لا يُذكّر أبداً بأيّ من تلك «الفتوحات» القذافية، بل يحقّ للرجل أن يطمح إلى تقديم مثال مضادّ؛ ولكن كيف لشرّ البلية الذي يُضحك اليوم في ليبيا، ويُبكي أيضاً هنا وهناك، ألا يعيد الذاكرة إلى ذاك القذافي… دون سواه!
وسوم: العدد 928