اللقاح الرضيب في خميس الغزل ووصال الحبيب
تمثل الكلمة لدى الأديب من ناثر أو ناظم كخميرة طين بيد الفخّار له أن يشكِّلها كيفما يريد، مستثمراً أنامله ومواهبه في تخليق المصنوعات الفخارية والطينية بما تسر الناظر وذات استخدامات مختلفة، فالأديب له أن يريض الكلمة ويجعلها مطواعة بين أنامله ولسانه يوجهها حيث ما يريد إصابة للهدف من مقالة يدبجها أو قصيدة ينظمها أو رسالة يحررها، فالنص النثري أو البيت النظمي المتكون من مجموعة كلمات له أن يكون تنضيداً لبضعة كلمات فاقدة للروح وله أن يستنطق حروفها فتأتي إليه مطواعة حيثما يرغب، وتطير إلى متلقيها على بساط الطاعة وتتسرب إلى بواطنه ومشاعره دون استئذان.
وكما للنص النثري أسماء مختلفة لأغراض مقصودة حسب المضمون والمؤدى كأن يكون مقالة أو عمودا أو تحقيقا أو بحثا أو رسالة جامعية أو دراسة وأمثال ذلك، فإنَّ للقطعة النظمية أغراضها كأن تكون مديحاً أو هجاءً أو رثاءً أو تحشيداً أو أرجوزة أو غزلاً وغيرها.
فالحروف هي الحروف والكلمات هي الكلمات، بيد أن مربط الفرس في تجييرها وتطويعها لما يريده الناظم، والغَزَل من الأغراض الشعرية التي يتفنن الشاعر في عجن الحروف بما يجعل الكلمات جذابة رائقة تصف المحبوب وتشبَّبب به وتجعله طوع مشاعر الشاعر وإرادته لما أعمله من فن رائع في سبك الكلمات وصقلها حتى جعلها نافذة إلى قلب المحبوب فيأتيه مختاراً بمشاعره وأحساسيه يسجد في محراب عشقه أو يذهب إليه الحبيب بين أهله وخلانه غير خائف يسوق عيساء غزله إلى حيث مضارب المحبوب غير آبه للعواقب يحمل بين يديه كفن عشقه الظامئ إلى حضن المحبوب.
والفرق بين غزَل بفتح الزاي وغزِل بكسرها، أن الأول يفتل الخيوط والثاني يفتل الكلمات، فكلاهما يفتلان، وكلاهما يتفننان في الصنع، على أن الأول يحاكي المادة جماداً، لكن الثاني له أن يحاكي المحبوب شعوراً فيأتي الغزل عفيفا حلالا أو أن يحاكيه جسداً فيأتي الغزل خادشاً وإذا دخل في التفاصيل وتفاعلات الجسدين جاء فاحشاً حراما تجاوز خط التماس ودخل المنطقة الحرام.
وعند هذه النقطة الفاصلة بين الحلال والحرام وبين العفة والفحشاء يتميز شاعر عن شاعر في تعاطيه مع شعر الغزل، وهو الشعر الذي يعتبر فاتحة المعلقات في العهد الجاهلي وما بعده حتى يومنا هذا، فما من شاعر ماهر إلا وكان الغزل مطلع قصيدته ومطية لباقي قوافيه، صحيح أن الإسلام بالأخلاقيات الفطرية السامية التي جاء بها وشدَّد عليها شذَّب من جنوح القوافي إلى حيث التفاصيل الجسدية وجزئيات المخدع والوسائد الندية.
وقد حفَّز مسار قلمي إلى هذه المقدمة صدور المجموعة الشعرية (خميس الغزل) للأديب الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في بيروت حديثا (2021م) عن بيت العلم للنابهين في 128 صفحة من القطع المتوسط ضمَّ 52 رباعية في الغزل مع قصيدتين للمقدمة والخاتمة، قدمّ وقرَّظ لها الأديب العراقي الشيخ حسنين آل قفطان.
وفي الخميس غزل
لم ينقطع الغزل عن القصائد العصماء في المقدسات ورجالاته مع ظهور عصر الإسلام، بل وتعتبر المطالع الغزلية علامة قوة في القصيدة وناظمها، فمن العهد الإسلامي، بردة الشاعر الحجازي إبن سلمى كعب بن زهير المتوفى سنة 26هـ وهو يمدح النبي الإسلام محمد (ص)، ومطلعها:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ *** مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا *** إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً *** لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ
ثم يعرج إلى لب القصيدة وسنامها في الثناء على النبي محمد (ص) قائلا:
إنَّ الرَّسُولَ لَنورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ *** مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
ومن العهد الوسيط بردة الشاعر الإسكندراني محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري المتوفي سنة 696هـ في النبي الأكرم (ص) ومطلعها:
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ *** مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ *** وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن إضَمِ
فما لِعَينـيكَ إن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا *** وما لقلبِكَ إن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــمِ
إلى أن يصل الشاعر إلى محبوبه وقطب رحى غزله:
محمدٌّ سـيدُ الكــونينِ والثقَلَـيْنِ *** والفريقـين مِن عُـربٍ ومِن عَجَـمِ
ومن العصر الحديث قصيدة الشاعر الكربلائي الشيخ محسن أبو الحب الكبير المتوفى سنة 1305هـ في رثاء الإمام الحسين (ع)، ومطلعها:
إنْ كنتِ مشفقةً عليَّ دعيني *** ما زال لومُكِ في الهوى يُغريني
لا تحسبي أني لِلَوْمُكِ سامعٌ *** إني إذاً في الحب غير أمين
بيني وبين الحب عهدٌ كلما *** رام العواذلُ نقضَهُ تركوني
إلى أن يقول على لسان شهيد كربلاء:
إنْ كان دينُ محمدٍ لَمْ يستقمْ *** إلا بِقَتْلي يا سيوفُ خُذيني
وعلى منوال الأوائل نسج ناظم (خميس الغزل) غزلياته في 52 رباعية مع قصيدة بعنوان "جلوة الشفاء" سبقت الرباعيات وأخرى بعنوان "توقف النظم" بها خُتمت، متغنيا بجمال محبوته مندكاً مع مشاعرها وأحاسيسها تلهمه ويلهمها تروّح عن نفسه وتسلِّيه إن ادلهمت الخطوب وأنشبت أظفارها الشرور، وتشاركه الفرحة إن تدفعت مياه الحبور أو طافت فوق رأسه غيمة السرور، فهما حاصل جمع واحد إن ضُربا ببعضهما، من هنا يقول في رباعية بعنوان "حياة العبقري":
حياة العبقريِّ في وِلْفِهِ تجري *** فذا من وحدة الحال بنا تسري
فقلبٌ واحدٌ فينا بدا يحكي *** لنا عن سرِّه حتى جلى إصري
فمن لي غيرها أشكو عنائي في *** بني الدنيا وفي غمرة الدهرِ
لها أحنو، بها أقوى على ضعفٍ *** غزاني فجأة لدى الكِبْرِ
وحيث عرفنا الغزل فماذا عن الخميس؟
إنه يوم الخميس، اليوم الأخير من الأسبوع وبعده يوم الجمعة يوم الإستراحة والمجانسة والمزاورة، حيث تعاهد الناظم وفي كل خميس من أسابيع السنة الواحدة وهي (52) أسبوعا أن ينظم وهو في طريق العودة راجلاً كعادته من مكتبه إلى منزله رباعية غزلية يناجي محبوبته ويناغيها ويشكرها في موضع الشكر، ويبث أحزانه في موضع الشكوى، ويعاتبها بحنو إن أغفلت منه شأناً، ويمجدها على رؤوس الأشهاد لأنها للتمجيد والتحميد أهلٌ، وفي هذا يقول الشيخ الكرباسي في دواعي نظم "خميس الغزل": (نحن هنا إذاً عبّرنا عما قدمناه هنا عن خيال تصوري فيما يقع بين الحبيبين على سنة الله ورسوله، وما يجري بينهما من العتاب عند تراكمه ويؤدي إلى تباعد جسماني، يمكن أن يتحول هذا التصور إلى تصديق يمكن لمسه على أرض الواقع، فإن المخلوق الذي نسبة تصرفه العقلائي يفترض أن يكون أكثر من نسبة تصرفه العاطفي، فهو يخاطب الطرف الذي يخالفه بهذه النسبة فيجعل من يوم الخميس ولمدة سنة سفينة وصل ومحبة ليصل بها وسط تلاطم الموج العارم إلى ساحل الأمان المأمور به من قبل العقل وموهبة سبحانه تعالى بأمل اللقاء، فكان الحبيب يرسل كل خميس عند انتهاء عمله الأسبوعي إلى حبيبته رباعية غزلية ليعيد المياه إلى مجاريها).
وصال ما بعد الموت
قد يجد البعض غضاضة في نظم الشعر الغزلي إلى حد الحرمة والتكفير، بخاصة إذا خرج الشاعر عن حدود المألوف، أو أدخل المقدسات في غزلياته حتى بدت كفراً صراحا، ولاسيما مع شعراء العرفان الذين يناجون المحبوب وقد أثملهم راح العبادة وأسكرتهم خمرته، على أن المتذوق للشعر لا يرى ما يراه الآخرون، بيد أن للغزل حدوداً يتوقف عندها الشاعر الحصيف وإن تشاكلت أنماطه وتشاركت مفرداته، لأن الشعر في كثير من أغراضه رسالة خير ومحبة وصلاح، من هنا فإن الشيخ حسنين آل قفطان في تقديمه للمجموعة الشعرية يفيدنا بالقول: "ورغم أن مجموعته الشعرية الموسومة بغزل الخميس كانت ذات طابع رومانسي اختصَّت بلون من ألوان الشعر وهو الغزل إلا أنه لم يبتعد عن مسلكه الحوزوي ولم يخرج من جُبَّة نُسكه وعفافه، فقد قدَّم بهذه المجموعة شعراً غزلياً مؤطَّراً بإطار الحشمة والقصدية، فالشعر ليس حالة انفلات لديه ولا وعي مستنبط من اللاوعي، بل الشعر عنده كائن ذو ملامح محددة وبارزة لم تشبها شائبة الغموض الرمزية، بل هي روضة بهية رائق مجتلاها فائق مجتناها يضع فيها لكل زهرة أريجها ولكل زنبقة شذاها".
وحتى لا يبتعد القفطان عن الغزل والتغني بالكواعب، فقد أردف تقديمه بقصيدة مقرظا فيها دائرة المعارف الحسينية التي تعتبر من بدايع تأليفات صاحب المجموعة الشعرية، فيقول:
من جوهرِ فردٍ نفيسٍ *** يحتلُّ مرتبةَ الرئيسِ
ثم يضيف بعد ان رأى العشرات من أجزاء الموسوعة وهو في النجف الأشرف وتصفحها:
طالعتها نهمَ الجنان *** لوصلِ كاعبةٍ عروسِ
بي ألف قيس وهي ليــ *** ـــيلى الأُنسِ في الليلِ العبوسِ
قد حاكَ بُردةَ حُسنِها *** رأسٌ ينيفُ على الرؤوسِ
ويختم القصيدة بالقول:
ليراعه تلقى التحيـــ *** ـــة مُنشئاً غَزَلَ الخميسِ
لقد توزعت الرباعيات على العناوين التالية: زهرة العُمر، نور العين، شمسُ الضحى، الحبُّ غذاءٌ، الصورة المتبلورة، إبنةُ الخير، الهوى لا يُخطئُ، الحبُّ الكريمُ، هواها يُنسي، زهرةُ الدنيا، نغمُ الشموع، الشريكة المواسية، قُطبُ الرَّحى، عزَّتي من عزِّها، طَوِّل حياتي، معزةٌ وكرامةٌ، أملُ الهوى، عشقتُ النَّسمة، لخَّصتُ حُبِّي، دَيْدَني في الحبِّ، تلقّى فؤادي جوابا، بدرُ الدُّجى، سرُّ الهنا، تحيَّة، تفي بالعهد، نسيمُ الوليف، جمالُ المُحيَّا، الدُّرَّة المُنتقاة، رضابُ الصبايا، سرُّ الإرتقاء، الحبيبُ المارد، أخفي جراحي، بلِّغ سلامي، بدرُنا زاهٍ، أيامُنا هناءُ، بقايا العطاء، لهيب اللظى، عشقي غريزةٌ، أنتِ حياتي، سهرتُ الليالي، أنا أنتِ، نحيا معاً، معاً معاً، دهرُ العسل، إلى الهَنا، شوقُ النفس، الحياءُ نورٌ، لقاء الحب والود، ارتقى العشقُ، حياة العبقري، إنَّني رهنٌ، وحالَ الحَوْلُ.
ولأن الناظم يهوى حبيته حبًا جماً، فإنه يريدها معه في الحياة وبعد الموت ويوم الحشر، فيخبرنا في البيتين الأخيرين من الرباعية المعنونة: "شوق النفس":
كنتُ الذي جاراكِ من حين الصِّبا *** حتى بلغتُ العجزَ في فقد القوى
مالي سوى مهواكِ يا عزِّي وفَخْـــ *** ـــــري في الدُّنى أنت التي فيك الرجا
ويدعو الله أن يكونا معاً يوم الحشر، فيخبرنا عن في رباعية بعنوان: "معاً معاً":
أراها لدى الحشر في خندق واحدٍ *** وفوق الصراطِ الذي مالَ كالرامدِ
معاً في مسار الولا قبل كلِّ الورى *** كما النور في مسرحٍ عن رضى الواحدِ
إلى جنَّة الخلد نسعى معاً مثلما *** بريقٌ بلا وقفةٍ رؤيةُ الماجدِ
هنا الفوزُ عندي بولفي ومَن طُهِّروا *** جواراً فرضوانُ ربِّي مع الحامدِ
وحيث أمنية كل موحِّدٍ وموحِّدة أنْ يهبه الله الجنان بحورها وولدانها المخلدين، فإن الناظم لا يرى بديلا يوم الحشر عن محبوبته التي قاسمته حياته بكل تضاريسها، فيقول في رباعيته المعنونة: "أنا أنتِ":
فيا ليت ربِّي يُلبِّي دعائي بِبُلْغِ *** فألقى وليفي بها حور عينٍ بِسَبْغِ
جرى عيشُنا الدُّنى صفقةَ العمر حقاً *** لولدانِ الخُلدِ أنا أرتقي عند صبغي
أنا أنتِ في وحدة الحال لا نشتكي عن *** خروقٍ على مستوى الحُبِّ في يوم رفغِ
أنا أنتِ فضلا سنسري معاً نحو رِضوا *** نِ ربي فهذا عزائي وعرفانُ رصغي
وحيث انسابت الرباعيات من وحي المشاعر والأحاسيس صبها الناظم في قالب شعري، فإن يوم الخميس عند الناظم هو محض مجاز، لأن سماحته وحسب المعايشة اليومية معه منذ أكثر من ربع قرن لم ينقطع عن الكتابة والتأليف وقضاء حوائج الناس على مدار الأسبوع إن كان في المكتب أو المنزل لا في ليل ولا نهار، فليس له عطلة نهاية الأسبوع، فكل أيامه عمل، وإنما اختار الخميس لأن المتعارف عند القاطنين في عموم البلدان العربية والإسلامية بأنه يوم الخلود الى الراحة في مسائه والإستراحة التامة في جمعته، فكما كان السبت عطلة اليهود والأحد عطلة المسيح فالجمعة عطلة المسلمين، وبين مساء الخميس ونهار الجمعة ساعات من المناجات والمناغات ووصل الحبيب ووصاله.
وسوم: العدد 928