صورٌ ومشاهدٌ من معركة سيف القدس
"1"
شرارةُ البدءِ وصاعقُ التفجيرِ
إنها الحرب الإسرائيلية الكبرى الرابعة على قطاع غزة، بعد حروبها العدوانية الهمجية عليه في الأعوام 2008/2009، و2012، و2014، التي اندلعت شرارتها نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى، وقيام سلطاتهم الاحتلالية بمنع المصلين من الوصول إلى مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى، وحرمانهم من إحياء ليلة القدر والاعتكاف في المسجد والرباط فيه، لصد قطعان المستوطنين ومنع مسيرة الأعلام من انتهاك حرمة المسجد والاحتفال بيوم القدس اليهودي في باحاته.
وسبق الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى، عدوانٌ على الفلسطينيين في باب العامود، وإعلان الحرب عليهم والتنكيل بهم، ومحاولات الاعتداء على سكان حي الشيخ جراح، وطردهم من بيوتهم واقتلاعهم من أرضهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم، والاستعانة بالمحكمة العليا للمصادقة على قرارات الجيش وبلدية القدس، بإخراج أهل حي الشيخ جراح من منازلهم عنوةً وبالقوة، بذرائع مختلفةٍ وحججٍ مختلقة.
لكن العرب الفلسطينيين المرابطين في مدينة القدس، ومن تمكن من الوصول إليهم من سكان الضفة الغربية، ومعهم آلافٌ من أهلنا المرابطين الصامدين في قراهم وبلداتهم في الأرض المحتلة عام 1948، قرروا مواجهة العدو الإسرائيلي والتصدي له، والوقوف في وجهه ومنعه من تنفيذ سياسته وتحقيق أهدافه، وأظهروا استعدادهم للتضحية من أجل القدس، ودفاعاً عن المسجد الأقصى المبارك، ورسموا بتضامنهم وصمودهم، صورةً ناصعةً للفلسطيني الثابت، الصادق المقاومة، الوفي المخلص، الذي ينافح عن الأمة ويذود عن حياضها، ويتقدم صفوفها مضحياً في سبيلها، ومدافعاً عن كرامتها، وغير مبالٍ بحجم التضحيات وعِظَمِ المعاناة، وعمق الجرح وغزارة الدم، فالقدس أغلى وأعزُ، والمسجدُ الأقصى أطهرُ وأشرفُ.
هددت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة العدو الإسرائيلي من مغبة الضي في سياسته، والاستمرار في عدوانه، والإصرار على عناده، وأمهلته ساعاتٍ للتراجع عن قراره، والتوقف عن ممارساته، وتمكين الفلسطينيين من حرية الزيارة والصلاة، ومن حق العبادة والاعتكاف، والتوقف عن تهديد سكان حي الشيخ جراح وترويعهم، والكف عن استفزازهم والاعتداء عليهم.
لكن العدو الإسرائيلي الموصوف الصلف والكبرياء، والعنجهية والخيلاء، والعدوان والغباء، أصم أذنيه وأغمض عينيه، ولم يصغِ إلى تهديدات المقاومة، ومضى في سياسته الرعناء، فضيق على المصلين واعتدى على من دخل المسجد منهم، واقتحم عليهم مسجدهم، وأطلق عليهم قنابل الغاز المسيلة للدموع، والطلقات المطاطية، ومضى يعتدي عليهم ضرباً بالهراوات، وركلاً بالأقدام، ودوساً بأقدام الخيول، وفتح عليهم خراطيم المياه العادمة النجسة، ذات الرائحة الكريهة العفنة، وفرق بالقوة جموع الراغبين بالدخول إلى المسجد، وشردهم وطاردهم، في الوقت الذي سهل فيه للمتطرفين مسيرتهم، ونظم جموعهم، وهيأ الظروف لاقتحامهم.
أخطأ العدو فهم المقاومة، ولم يعِ دروسها القديمة، ولم يصغِ إلى تهديداتها الحازمة ووعودها الصادقة، فتجاوز المهلة التي منحته إياها، وأصر على مواقفه وعاند، فاستحق الرد والقصف، والتأديب والصفع، كما استحق المقدسيون العون والنصرة، والمد والنجدة، فكانت بداية "معركة سيف القدس"، التي توالت فصولها تباعاً، وتعددت مشاهدها ظهوراً، ورسمت صورها كثيراً، وهم ما سأميط اللثام عنه في حلقاتٍ متسلسلة ومقالاتٍ قصيرةٍ متوالية، حتى تنتهي المعركة، وتضع الحرب أوزارها، وتنتصر المقاومة لأهلها، وتصدق في وعودها، وتثبت معادلاتها الذهبية الجديدة.
صورٌ ومشاهدٌ من معركة سيف القدس "2"
الكيانُ يستدعي احتياطَه وينقلُ إلى الجبهاتِ جنودَه
فيما يبدو أنها تتهيأ لخوض عملية برية، يجتاح فيها جيشها قطاع غزة، فقد أوصى مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي المصغر، في جلسته الأمنية التي عقدت مساء رابع أيام العدوان على قطاع غزة، باستدعاء ستة عشر ألف جندي وضابط من احتياطي الجيش، منهم سبعة آلاف جندي وضابط لدعم وإسناد طواقم منظومة القبة الحديدية، بعد أن أظهرت المنظومة فشلها في التصدي لصواريخ المقاومة الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة، حيث أطلقت فصائل المقاومة حتى الساعة، أكثر من 1150 صاروخاً، لم تتمكن القبة الحديدية من اعتراض أغلبها، التي سقطت على القدس وتل أبيب وهرتسيليا وأسدود وعسقلان ومحيط مطار بن غوريون، فضلاً عن مئات الصواريخ الأخرى التي سقطت على مستوطنات غلاف قطاع غزة، بالإضافة إلى استهداف مطار رامون في النقب بصاروخ عياش، الذي يبلغ مداه 250 كيلو متراً.
كما أوصت باستدعاء تسعة آلاف جندي وضابط آخرين، من المتمرنين على القتال في الجبهات، ومن الخبراء في عمليات القتال البري في سلاح المدفعية والدبابات، وممن شاركوا في مناوراتٍ بريةٍ تحاكي حرباً في غزة، ولديهم الخبرة في خوض معارك برية مع المجموعات العسكرية الفلسطينية، وذلك في أكبر حشدٍ عسكري على الجبهة الجنوبية للكيان، في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية على حدود قطاع غزة، التي أظهرت أنها قادرة على إلحاق الأذى بهم، ومواصلة قصف مدنها بالصواريخ الدقيقة، المتعددة المديات، والمختلفة القدرات، الأمر الذي كبد الإسرائيليين خسائر بشرية ومادية، وسبب لهم حرجاً داخلياً وخارجياً، مس هيبة الجيش وسيادة الدولة وقوتها.
كما بدأت قيادة جيش الكيان الصهيوني بسحب وحداتٍ كبيرةٍ من قوات حرس الحدود، العاملين في الضفة الغربية، ونقلت بعضاً منهم إلى البلدات الفلسطينية المختلطة في الأرض المحتلة عام 1948، كاللد والرملة وعكا وحيفا، وذلك إثر الأحداث التي شهدتها هذه المدن، حيث وقعت اشتباكات عنيفة بين سكانها العرب والمستوطنين الإسرائيليين، نتج عنها إصاباتٌ خطيرة، أدت إلى إحراج الحكومة الإسرائيلية واهتزاز صورتها داخلياً وعلى المستوى الدولي، علما أن وزارة الحرب الإسرائيلية تصر على عدم دخول وحدات الجيش النظامية إلى البلدات المختلطة، والاكتفاء بتعزيز القوى الشرطية فيها، وإسنادها بوحداتٍ إضافية من المدن والبلدات الإسرائيلية الأخرى.
مما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني مضطربٌ يتخبط، وخائفٌ يترقب، فهو يتردد كثيراً في المصادقة على أي عملية عسكرية برية مع قطاع غزة، سواء كانت عملية محدودة أو موسعة، حيث يوجد معارضون كبارٌ لها على المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية، ولا يستطيع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يأمر بتنفيذها بقرارٍ منه، بل هو في حاجةٍ إلى موافقة أولية من المجلس الوزاري المصغر، ثم إلى مصادقة من المجلس الوزاري الموسع، حيث أن هكذا عملية من شأنها أن تلحق بالكيان الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
إذا كان الكيان الصهيوني يخشى من حربٍ ميدانيةٍ بريةٍ محدودةٍ مع قوى المقاومة في قطاع غزة، وهو القطاع الصغير المساحة والمحدود الامتداد، والأقل منه قدرةً عسكريةً وأسلحة هجومية، فكيف سيكون حاله لو أن جيشه انشغل بكل الجبهات، في القدس المحتلة والضفة الغربية، وفي شمال فلسطين وفي جبهة الجولان وعلى الحدود مع سوريا، واضطر إلى المحافظة على وحداته العسكرية المقاتلة على كل هذه الجبهات فقط، فلا أعتقد أنه كان سيستطيع المواجهة أو الصمود، أو يستطيع القتال والاجتياح، إذ لا قدرة لديه ولا عديد عنده، ولا يحتمل مجتمعه ولا يصمد جيشه، ولا تقوى حكومته ولا تنجو قيادته.
فيا أيها الشرفاء المخلصون، الشركاء المقاومون، لا تتركوا قطاع غزة وحده يقاتل، ولا تتخلوا عنه وهو يقاوم، ولا تكتفوا بالإشادة بصموده ومدح قوته، والتغني بجرأته وتعظيم شجاعته، بل هبوا لنجدته، وأسرعوا لإغاثته، وبادروا لنصرته، وسخنوا الجبهات تخفيفاً عنه، فهو الذي انبرى لنصرة القدس وحماية الأقصى، فلم يوقفه بطش العدو ولا تفوقه العسكري، بل مضى على الله عز وجل متوكلاً، ووجهه سبحانه وتعالى قاصداً، فاستحق بذلك النصر المبين، واستأهل العزة والكرامة والتمكين.
وسوم: العدد 929