لا يمكن للنموذج التنموي أن يؤتي أكله دون وازع ديني
أسال التقرير المرفوع إلى جلالة الملك من طرف اللجنة التي أوكل إليها موضوع النموذج التنموي مدادا كثيرا بعد كشفها عنه . وتنوعت زوايا التطرق إليه باختلاف قناعات وتوجهات و وجهات نظر من خاضوا في شأنه ، لكنهم أجمعوا على أنه لا بديل عنه من أجل مغرب جديد قررت قيادته استجابة لإرادة الشعب الإقلاع به من أجل ربح رهان لا مندوحة عنه بعدما ظل المغرب لعقود رهين وضع سياسي واقتصادي واجتماعي لم ترض عنه لا قيادته كما لم يرض عن الشعب أيضا .
ومما أجمع عليه أيضا كل من تناولوا هذا التقرير إما بالعرض أو بالدراسة أو بالنقد هو وضع اليد على ما سمي " ضرورة استعادة الثقة " بين الشعب من جهة وبين من يتولون تدبير الشأن في البلاد من جهة أخرى ، وذلك من أجل الدفع بعجلة هذا النموذج التنموي إلى الأمام لتحقيق ما سطر له من أهداف كفيلة بإخراج المغرب من وضع لم يعد مقبولا إلى وضع أفضل وأحسن منه .
ومعلوم أن استعادة هذه الثقة بين الطرفين، وهي عبارة انتقال من الشك والارتياب إلى اليقين ، ليست بالأمر الهين بعدما مرت عقود على فقدانها بينهما حتى نشأ اعتقاد بأنها صارت في حكم المستحيل وقد تناوبت أطياف سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على تدبير شؤون البلاد تدبير غالبا ما تحضر فيه الوعود العريضة دون الوفاء بها إجرائيا .
وللتذكير فإن الثقة بين الشعب وقيادته الملكية بقيت بعيدة وفي منأى عما تعرفه الثقة بينه وبين الحكومات المتعاقبة على تسيير شؤون البلاد من فقدان، لأن علاقة الشعب بالملكية علاقة دينية مرتبطة بالبيعة ،علما بأن كل ما له صلة بالدين لا يمكن أن تفقد الثقة فيه أبدا .
ولما كان النموذج التنموي المطروح عبارة عن مبادرة ملكية ، فإن الشعب يضع فيها الثقة كثقته برباط البيعة بينه وبينها ، ولكنه في حاجة إلى استعادة الثقة فيمن سيتولون تنزيل هذا النموذج إلى أرض الواقع ، كما أن هؤلاء أيضا في حاجة إلى استعادة الثقة في الشعب لضمان نجاح عملية التنزيل . ومن أجل حصول هذه الثقة بين الشعب و بين من سيوكل إليهم التنزيل لا مندوحة عن الوازع الديني لدى الجميع.
ولا يمكن أن يمضي هذا النموذج التنموي قدما إلا بتفعيل هذا الوازع لدى الجميع لأنه هو صمام أمان حصول الثقة بينهم . والوازع الديني هو الضابط الأخلاقي الذي يمنع الجميع عن كل انحراف عن جادة التعاقد فيما بينهم ،لأنه بمثابة ميثاق غليظ بينهم بحكم استحضارهم فيه جميعا معية وشهادة ورقابة الله سبحانه وتعالى وكفى بها رقابة .
ومعلوم أن كل من استرعي أمانة من أمانات هذا النموذج التنموي الذي تعقد عليه الآمال العريضة إن لم يحكمه الوازع الديني، فلا ثقة فيه مهما كانت خبرته أو علمه أو تخصصه ،لأن من لا يراعي رقابة الخالق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يبالي برقابة المخلوق ، ولا يمكن حينئذ الثقة فيه .
ولهذا لا بد من تنبيه الجهات التي تريد نقل بلدنا المسلم من مجتمع ديني إلى مجتمع مدني بدلالة لا دينية أنها تغامر بالوازع الديني الذي هو ضمان استرجاع الثقة بين الشعب وبين من يتولون تسيير وتدبير شؤونه . ومن العبارات المتداولة على ألسنة المغاربة حين يقومون بتقويم المسؤولين عبارة " فلان يخاف الله عز وجل " وهي عبارة تدل على الشهادة بوجود الوازع الديني لديه .
وقد يتساءل البعض ألا يمكن أن يكون ما يسمى الضمير بديلا عن الوازع الديني؟ والجواب أنه شتان بينهما، وإن بدا أن دلالتهما واحدة ،لأن الوازع الديني التزام بين الخالق والمخلوق متبوع بالمساءلة والمحاسبة الإلهية في الآخرة ، بينما الضمير هو التزام بين المخلوقات فيما بينها في الحياة الدنيا ، وليست مساءلة ومحاسبة الخلق في العاجل كمساءلة ومحاسبة الخالق سبحانه وتعالى في الآجل . ولا يمكن أن يغامر المخلوق بمصيره الأخروي مقابل عرض الدنيا الزائل إن كان لديه مثقال ذرة من عقل .
ومن أجل إحياء عودة الوازع الديني إلى الجميع لا بد من أن يمكن الشأن الديني في بلادنا من القيام بواجبه على الوجه الكامل بعيدا عن القيود والشروط التي تحد من ذلك أو تعطله ، علما بأن فقدان الشعب الثقة في الشأن الديني أمر على جانب كبير من الخطورة يجب الانتباه إليه إذ لا يمكن أن يوجد بديل عنه يمكن الثقة فيه . وعلى الذين يرفعون أصواتهم عالية بإبعاد الدين عن بعض شؤون الحياة علما بأنه منهاج حياة ، وهو لا يمكن أن يكون كذلك إذا ما أقصي من تنظيم بعض جوانبها، واقتصر على تنظيم شأن العبادات دون المعاملات على اختلاف أنواعها ، واستثني من ممارسة تنظيمها على غرار تنظيمه باقي شؤون الحياة كما أراد له الخالق سبحانه وتعالى ، ولا مندوحة عن تغيير الذهنية التي يتم التعامل بها مع الشأن الديني في بلادنا .
ولا يمكن بحال من الأحوال نقل تجارب المجتمعات العلمانية اللادينية إلى مجتمع متدين، لأن قياس هذا الأخير على تلك قياس فاسد من أساسه . وإذا كانت العلمانية لها حرية تنظيم جميع شؤون الحياة باعتبارها منهاج حياة عند من يتبنونها ، فلا يمكن أن يمنع الدين الإسلامي من ذلك وهو منهاج حياة بالمعنى الصحيح والدقيق للعبارة ،لأنه من عند الله عز وجل والذي لا يبلغ شرع وضعي مهما كان كمال وتمام شرعه الذي رضيه لخلقه .
وعليه لا بد من أن ينخرط العلماء والخطباء والدعاة في توفير مناخ عودة الثقة بين الشعب وبين من يتولون تدبير شؤونه من أجل إنجاح النموذج التنموي المراهن عليه ، وهؤلاء أطراف لا يمكن الاستغناء عنهم ، ولا ندري لحد الساعة هل شملتهم الاستشارة من طرف اللجنة الملكية أم أنهم غيّبوا عنها ؟
ونأمل أن يجد هذا الطرح آذانا صاغية من أجل توفير المناخ المناسب لتنزيل نموذج تنموي تعلق عليه الآمال .
وسوم: العدد 932