مع شيخ الحقوقيين الأستاذ هيثم المالح وكتابه " شرعنة الجريمة"
عود على بدء في قانون العار / 49 / 1980
ولا بد أننا حين نكتب عن القضايا الحقوقية الكبرى في سورية، أن نتوقف عند جهد قامة وطنية قانونية قدمت الكثير على طريق صيانة الحقوق الإنسانية والسياسة للمجتمع السوري .
فمنذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم ما يزال الأستاذ هيثم المالح في ساحة القانون والحقوق العامة، معلما ومدافعا . وحين اضطر كثير من أحرار سورية في مرحلتي الستينات والثمانيات إلى مغادرة أوطانهم؛ ظل الأستاذ هيثم ثابتا كالطود في الميدان، لا يهادن ولا يغادر ..
ولم تكن رحلة الأستاذ هيثم في التصدي لنظام الجريمة الفاقد لكل معاني الشرعية سهلة ، فقد أدخل السجن أكثر من مرة ، وخرج منه أصلب عودا وأشد مراسا ..
ومنذ صدور قانون الجريمة والعار 7/ 7/ 1980 ظل الأستاذ الحقوقي والقانوني يندد بالقانون، ويشرح أبعاد مخالفته للقوانين الدولية والحقوق الإنسانية، مع فقده للصفة الدستورية ..
وفي عام 2001 وبعد وصول بشار الأسد إلى السلطة وراثة عن أبيه، وادعائه بالسير على طريق الإصلاح عبر التجديد، أرسل الأستاذ هيثم المالح إلى بشار الأسد مذكرة قانونية، من خمس نطاق، يقيم فيها عليه الحجة، ويضمنها مطالبة صريحة واضحة لا لبس فيها : بإلغاء القانون 49 / 1980 ، ويضيف إلى ذلك المطالبة بالتعويض العادل على أسر الضحايا المتضررين من القانون المشؤوم . وهي مطالب لم يجرؤ على مثلها حتى اليوم الكثيرون ...
ثمة لفتة، لا بد أن نشير إليها في هذا السياق وهي أن بعض أبواق نظام الجريمة تظل تقول إن قانون الجريمة قد تم إلغاؤه عمليا في عهد بشار الأسد ، ولم ينفذ بحق أحد من المواطنين، والحقيقة القانونية الواضحة أن القانون الذي يصدر برقم وتاريخ واعتماد على مرجعية قانونية مهما تكن هشة ، لا يسقط إلا بقانون ذي رقم وتاريخ ..
وبالعود إلى الأستاذ هيثم المالح ، ودوره في الدفاع عن " الحقوق العامة " للشعب السوري، لا بد أن نذكر ، ونحن نتحدث عن قانون العار ، القانون 49/ 1980 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، كتابَه الذي أصدره مع بداية الثورة المباركة ومنذ العام 2012 تحت عنوان " سورية شرعنة الجريمة " . وعنوان الكتاب في ذاته يحمل أبعادا إنسانية وفكرية وحقوقية متعددة الآفاق ..
فإذا كانت محاصرة الجريمة، والتضييق على مرتكبيها، والمعاقبة عليها ، هي الأصل في مسيرة الحضارة الإنسانية والصيرورة القانونية بشكل عام، فإن النظام الحاكم في دمشق منذ قيامه ، ظل لا يكتفي بالخروج على القانون الإنساني والدولي والوطني، بل يعمل دائما على أن يقنن أو يشرعن عمليات الخروج على القانون ،ليغطي نفسه، وجرائمه ، وجرائم شركائه في الجريمة الوطنية، وكثيرا ما يفعل هذا بشكل استباقي، وهذا الذي نجح الأستاذ هيثم المالح في شرحه وتوضيحه للرأي العام المحلي والدولي بلغة حقوقية قانونية فذة لا يستطيع الالتفاف عليها الملتفون ..
في ستة فصول متعانقة يأخذ بعضها بعناق بعض، كشف الأستاذ هيثم الأبعاد الجرمية، ليس فقط في ارتكاب الجريمة، بل بإضفاء الثوب القانوني الزائف عليها ..
في الفصل الأول تحدث الأستاذ هيثم عن قانون الطوارئ الذي أصبح الأصل وليس الطارئ في حياة الإنسان العربي عامة ، والسوري خاصة، منذ أكثر من نصف قرن، وعن أثر كل ذلك وتداعياته على الحضارة والإنسان ..لا شك أن العيش المديد في ظل حالة الطوارئ، تخلف آثارا نفسية محبطة لكل البشر الأسوياء . وسورية لمن لا يعلم تعيش في ظل حالة الطوارئ منذ الثامن من آذار 1963 حيث ماتت وولدت وماتت في ظل هذه الحالة أجيال ..
وفي الفصل الثاني - من كتاب شرعنة الجريمة - توقف الأستاذ هيثم - جزاه الله كل خير - عند القانون 49/ 1980 ، ووصفه بفقدان الدستورية، وبتناقضه مع العدالة ، وبخروجه على اللوائح القانونية الدولية، والمواثيق الإنسانية ، وقضى عليه بانعدام أثره القانوني ، وطالب جميع المنظمات الحقوقية الدولية، برفض الاعتراف به، وبكل الآثار المترتبة عليه. بمعنى أن تكون كل الأفعال تمت تغطيتها بهذا القانون الجريمة مجرمة ، وأفعالا غير قانونية ، وتظل توسم كما هي على الحقيقة بأنها جرائم ارتكبت خارج إطار قانون دستوري عادل. كما توقف الأستاذ هيثم عند تطبيق القانون المشرعن للجريمة على الضحايا بأثر رجعي، بمعنى تجريم الإنسان بفعل لم يكن عند ارتكابه جريمة ..
اإن لآفاق التي ارتقى إليها كتاب " سورية شرعنة الجريمة" آفاق سامية رسمت بلغة حقوقية بارعة ومختصة ، وجدير به أن يحتل مكانه في مكتبات كل العاملين للقضية السورية من بعدها القانوني..
في الفصل الثالث من كتاب " شرعنة الجريمة " يقف المؤلف - حفظه الله عند جريمة أخرى ترتكب في سورية بلا حدود ولا قيود، جريمة التعذيب ، فيكتب تحت عنوان " من التعذيب إلى منع التعذيب ، مطالبا الجميع بأن يأخذوا دورهم في منع التعذيب في سورية، الذي أصبح جريمة مشرعنة في ظل صمت المجتمع الدولي عن كل ما تم كشفه من عناصر الجريمة هناك.
وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن القضاء في سورية بين ما هو عليه وما يجب أن يكون. وفي الفصلين الخامس والسادس يتحدث عن "الجريمة والعقاب" وعن الخداع في قراءة المرسومات القضائية ..
لا بد لنا اليوم ونحن نعيش الذكرى المشؤومة الحادية والأربعين للقانون 49 .. أن نستذكر بالدعاء والرحمة كل الشهداء الذين قضوا بسيف هذا القانون الجريمة ، الأحرار الذين قضوا وقوفا وهم يدافعون عن حرية سورية وسيادة وكرامة أبنائها.
إن سيادة الدولة الحقيقية إنما تنبع من سيادة كل مواطن من أبنائها على أرضه..
وأن نستذكر أيضا بالتحية والتجلة كل السورين الذين عملوا بجد وتضحية، لفضح قانون الجريمة والعار ، وفي مقدمتهم الأستاذ هيثم المالح شيخ الحقوقيين السوريين ، على ما قدم على مدى عقود من عمره المبارك دفاعا عن الحقوق العامة للشعب السوري بكل فئاته ..
وكتاب " سورية شرعنة الجريمة " كتاب جدير بأن يقرأ من كل المعنيين والمهتمين بالقضية السورية، ولاسيما في بعدها الحقوقي والقانوني, وهو مطبوع متوفر بالأسواق ، ومتوفر على الشبكة ..
وجزى الله العاملين أتم الخير وأوفاه ..
وسوم: العدد 937