تحذير رباني...فمن يصغي ومن يستمع؟!
يقول الله سبحانه وتعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين). التحذير موجه للذين آمنوا تحديدا، تبدأ الآية بنداء للمؤمنين وتنته ومن خلال مقطع قصير وسبيل دنيوي بتحول أولئك المخاطبون إلى خاسرين، إن شغلتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
المؤمنون وبطبيعة الحال ينشغلون بأموال حلال ليست ربوية ولا تكون من خلال استثمارات في الخلاعة أو القنوات الفضائية أو العبث والمجون. ومع ذلك فقد تحول المؤمنون بإنشغالهم عن ذكر الله وقد أختلت أولوياتهم وأعتلت موازينهم إلى الخسارة بشهادة رب رؤوف عادل شديد العقاب. يرفع الآذان والإقامة ولا يتحرك الناس عن مصالحهم وشرائهم وبيعهم سعيا للصلاة، فإذا نصحت أو ناقشت قالوا العمل عبادة والقيام على رزق العيال عبادة. نعم هو عبادة إن كان السعي له حلالا ولا يشغل عن ذكر الله ولا يتقدم عليه، وإن كان الهدف منه حياة كريمة لا مترفة، ولا يقصد منها المباهاة والتفاخر والتثاقل إلى الأرض.
يقول الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"، تحذير رباني من أن ينشغل الإنسان عن ذكر الله بأهله أو أن يرق قلبه لحالهم أو مطالبهم فيدفعه ذلك للقبول أو التعامل بالحرام أو أن يشهد زروا أو أن يغشى فجورا. لقد خلق الله الإنسان في هذا الكون لرسالة عظيمة وأمانة كبيرة، وسخر له ما في السموات والأرض، واستخلفه على الأرض، لينظر في نهاية المطاف ماذا نعمل، بعد أن يبتلينا في هذه الدنيا ليكون الحساب دقيقا ممن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، وحسابه بمثقال ذرة، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). ويخاطبنا الله (نسأل الله أن نكون من أهل الإيمان) فيقول سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد"، هل توقفنا يوما لنتأمل وننظر ما قدمنا لغد؟؟ أم نكون ممن يقول -عياذا بالله- حين يأتي ذلك الغد: " يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي".
وتأتي الأية العاشرة من سورة المنافقين بعد التحذير الرباني من الإنشغال عن ذكر الله بالمال لتضع المؤمن أمام أختبار فتنة المال وحبه: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين). ومع وعد الله للمنفقين بأن الله سيخلف عليهم ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم بأن المال لا تنقصه الصدقة، يسقط كثيرون في إمتحان المال (الحديث ليس هنا عن أهل الربا والسحت وأكل المال الحرام وخيانة الأمانة) فتراهم حتى في الزكاة يلجؤون للحيل وللفتاوي لعل زكاتهم تقل وبالتالي تزداد أموالهم كما يتخيلون. هذا خلل في الإيمان، كما إن من صفات المحسنين والتي وردت في سورة الذاريات "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" (وليس فقط حق معلوم وهو الزكاة)، والله سبحانه وتعالى يقول " إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ".
إن أوضاع المسلمين في بلدان عدة في غاية الصعوبة والقسوة، في العراق وسوريا وفلسطين وبورما وغيرهم (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، يُتركون لجمعيات تنصيرية تنهش من عقيدتهم أو للجوع والحرمان يفتك بهم ويقضي على مستقبل أطفالهم ويزيد من معاناة مرضاهم وكبار السن. فيما بعض من أقربائهم قد وسع الله عليهم أرزاقهم ومع ذلك فهم لا ينفقون على أرحامهم المنكوبين إلا من زكاة أموالهم، وإذا قيل لهم انفقوا أو ساعدوا قال نريد أن ندخر المال حرصا على أبنائنا ومستقبلهم. نخاف على أرزاق أبنائنا (والله كفلها) أكثر من خوفنا على أنفسنا حين نقف أمام الله يسألنا عن أيتام وأرامل وثكالى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يبيتون على الطوى وبعض منا يفكر ويسدد المال لعل وزنه ينقص. ينبغي على المسلم أن يحرص على آخرته أكثر من حرصه على دنياه ودنيا أبنائه وأن تكون ثقته بالله أكبر من اعتماده على تجارته ومصادر رزقه، ( ورحمة ربك خير مما يجمعون).
إن أختبار الحياة قاس وصعب، وإن الأمر جد لا هزل، وإن الموت أقرب إلينا أكثر بكثير مما نتخيل، أمامنا سكرات الموت وما قبلها وكيفية الوصول إليها، وضمة القبر وظلمته، وعالم البرزخ "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"، وبعد ذلك يوم الفزع الأكبر، والصراط والحساب والوقوف أمام الله، "يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد".
إن ما نستطيعه اليوم قد لا نستطيعه غدا، وإن موازين الآخرة مختلفة تماما عن الدنيا، فاذا كانت دمعة من خشية الله في خلوة، قد تنجينا من النار وإذا كانت شق تمرة قد يقينا حر جهنم، فإن الأمر مختلف في الآخرة، (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)، أما حقوق العباد وأغتصابها أو الانتقاص من كراماتهم او حتى إيذاء الدواب، فحساب الآخرة ليس هينا، وما ربك بظلام للعبيد.
إن حياتنا فرصة كبيرة، وإن عافيتنا وما من الله علينا من رزق نعمة كبيرة، وإن الحياة والدنيا أختبار كبير، وفي الختام، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"، "كل نفس بما كسبت رهينة".
اللهم نسألك حسن الخاتمة والهداية والسداد والرشاد وأن تهب لنا من لدنك حكما وعلما ورحمة إنك أنت الوهاب.
وسوم: العدد 938