السودان: درس الجفاء المزمن بين الجيش والديمقراطية
وحدهم أصحاب النوايا الحسنة، وبعض السذّج بالطبع، انتظروا أن تسير الانتفاضة الشعبية في السودان من حسن إلى أحسن، وأن تتجاوز العقبات والمصاعب والإشكالات والاستعصاءات التي شهدتها انتفاضات عربية سابقة، في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، أو حتى الجزائر. ولقد توفّر طراز، كاذب عن سابق قصد ومخادع، من التغنّي بالسلمية وائتلاف الجيش مع التكوينات المدنية المختلفة، فضلاً وجود «تكنوقراطي» ربيب مؤسسات اقتصادية أممية على رأس الحكومة. غير أنّ الحقائق، الصلبة الصارخة المحتومة أحياناً، تتابعت سريعاً لجهة تأكيد هيمنة الجيش وجاهزية ميليشيات جنجويد الماضي القريب/ «قوات الدعم السريع» الحاضر لاستعادة ألوان البطش القديمة إياها؛ ولجهة استئناف تحالفات الهيمنة والفساد، في مستويات شتى اقتصادية وسياسية واستثمارية؛ ثمّ تنويع شبكات الارتباط والعمالة الإقليمية، من مصر والإمارات إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي وتشاد وخليفة حفتر.
وقد يساجل مساجل، على نحو مشروع لا يغيب عنه بعض الصواب، أنّ هذه حال منتظَرة من انتفاضة على الشاكلة التي اتخذتها، وبالقياس والمقارنة مع شقيقاتها الانتفاضات العربية هنا وهناك؛ ما خلا أنّ سجالاً كهذا يتوجب أن يردّ الكثير من عناصر التأزّم الراهنة إلى معضلة كبرى شرقية (بل تكررت بعض الوقت غربياً، كما في اليونان الحديث) هي علاقة الامتناع الكلاسيكية بين المؤسسة العسكرية ونظيرتها المؤسسة المدنية، أو الجفاء المزمن بين الجيش والديمقراطية على نحو أعرض.
وفي سياق سجالي مثل هذا لا يصحّ، منهجياً على الأقلّ، استبعاد الفرضيات التي تقول إنّ حاكم السودان الأقوى اليوم هو عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وأنّ الثاني من حيث القوّة هو محمد حمدان دقلو آمر وحدات «الدعم السريع»، وللمرء أن يضع رئيس الحكومة في أية مرتبة بعد ذلك! وليس من كبير فارق، بالنسبة إلى شعب السودان أو مسارات انتفاضته، أن يتوجه هذا إلى القاهرة أو ذاك إلى أبو ظبي أو ثالث إلى أنقرة أو رابع إلى واشنطن أو خامس إلى موسكو… ما دامت النتائج تنتهي، في كثير وليس في قليل، إلى الحصيلة المشتركة: هيمنة الجيش.
وحين يتحدث حمدوك عن «أزمة وطنية شاملة»، يُدرج في تضاعيفها بنود تأزّم كبرى مثل تعدّد مراكز القرار وتفاقم الفساد وتصاعد الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية، فيستخلص أنها تنطوي على أخطار تهدد «وجود السودان نفسه»؛ ألا يبدو وكأنه يرجّع الكثير من أصداء العواقب التي اقترنت بأطوار ما بعد إعادة إنتاج هذا أو ذاك من أشكال الاستبداد، في أطوار ما بعد هذه أو تلك من انتفاضات العرب؟ في عبارة أخرى، هل اختلف السودان كثيراً عن شقيقاته العربيات في مسألة واحدة على الأقل، لكنها مركزية تماماً، هي موقع المؤسسة العسكرية في تشكيلات ما بعد إعادة تدوير الأنظمة؟
وأمّا الاشتباكات القبلية الراهنة، في غرب دارفور بصفة خاصة، والتي أوقعت وتوقع عشرات القتلى؛ فإنّ أسوأ قراءة لها، وأكثرها تخابثاً وتزويراً، هي تلك التي أخذت تعتمدها مؤسسة الجيش السوداني، من حيث اختزالها إلى ميليشيات نهب وسلب «عابرة لدول الجوار الإقليمي». هذا، في أعمق مدلولاته، طراز آخر من إعادة تدوير معضلة سودانية عتيقة، لدولة – أمّة يتكلم مواطنوها أكثر من مائة لغة، وينقسمون إلى عشرات المجموعات الإثنية، وتتناهبهم خطوط ولاء قبلية وجغرافية ليس أقلها انقسام الشمال بثقافته العربية، والجنوب بثقافته الأفريقية أو الوثنية، فضلاً عن الإسلام والمسيحية بالطبع.
وفي كلّ حال، ليس الجيش هو المؤهل لحمل لواء الإصلاح وملاقاة المطالب الشعبية والسير بالانتفاضة الشعبية إلى أهدافها العليا، بل من الأصحّ القول إنّ الصراعات الراهنة التي تحتدم اليوم بين رؤوسه، ثمّ بين هؤلاء والمكوّنات المدنية للحكم؛ إنما تعيد تكرار مآسي انتفاضات عربية أخرى، بل هي تقتدي بأشرس ما أفرزته الثورات المضادة من تقاليد ارتداد ونكوص نحو الاستبداد.
وسوم: العدد 938