هل أتى على المسلمين زمن القبض على دينهم كالقابض على الجمر ؟
من الأحاديث النبوية الشريفة المتضمنة لنبوءات سيد الخلق وإمام المرسلين عليه أفضل الصلوات و أزكى السلام وعلى آله وصحبه أجمعين الحديث الذي رواه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى والذي جاء فيه : " يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر " .
و لقد أجمع شرّاح هذا الحديث أن هذه النبوءة تتعلق بزمن يكثر فيه ما يفتن المسلم في دينه شر فتنة ، فلا يؤدي عباداته إلا بمشقة ، ولا يسلم في معاملاته من حرج بسبب انحراف الناس عن تعاليم الإسلام عبادات ومعاملات .
ومن أجل تقريب هذه الحال البائسة للإنسان المتدين في هذا الزمن الذي أشار إليه الحديث لا بد من وقفة مع التشبيه الذي تضمنه حيث شبه وهو يقبض على دينه بالقابض على الجمر ، وأول ما تقتضيه هذه الوقفة التذكير بتعريف التشبيه عند البلاغيين ، وهو : " إلحاق أمر المشبه بأمر المشبه به في معنى مشترك بينهما هو وجه الشبه مع استعمال أداة تشبيه " ، وتسمى هذه أركانا إشارة إلى أن التشبيه لا يستقيم إلا بها .
أما المشبه في التشبيه الوارد في هذا الحديث فهو القابض على دينه ، وقبض الشيء أو القبض عليه هو مسكه بضم أصابع اليد عليه بقوة لمنع انفلاته منها، هذا على وجه الحقيقة، أما إذا ما استعمل مجازا كما هو الأمر في هذا الحديث ،فهو يعني الحرص على الشيء مخافة ضياعه . والقابض على الدين هو الحريص عليه مخافة ضياعه منه .
وإذا كانت عملية القبض في حد ذاتها فيها مشقة وعنت، فما بالها إذا كان المقبوض عبارة عن جمرة محرقة لا يطيق ولا يتحمل حرها ماسكها أو الماسك عليها ؟ إن إلحاق أمر المشبه بأمر المشبه به في هذا الحديث هو اشتراكهما في الألم والمعاناة .
وقد يبدو لأغلب الناس أن ألم ومعاناة الماسك على الجمر لا يبلغ درجتهما ألم أو معاناة مهما كانا، لأنهم لا يطيقون مجرد لمس الجمر فبالأحرى مسكه أو المسك عليه وهو أمر مستحيل لا قبل لهم به ، ولكن الأمر خلاف ذلك ،لأن الذي جاء بهذا التشبيه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق على الهوى ، وما جاء به إلا وقد كشف له الله عز وجل حجب الغيب فرأى رأي العين ما يكون عليه الماسك على دينه حين يستفحل أمر الفتن التي هي كقطع الليل المظلم .
وإذا كان الماسك على الجمر تحرق يده وتنتفط وتقترح يجد لها مع ذلك دواء ، فإن الماسك على دينه زمن الفتن يحترق قلبه وينصدع ولا دواء له . والماسك على الجمر لألمه نهاية ، بينما لا نهاية لألم الماسك على دينه والفتن تموج.
ولا بأس بأمثلة من واقعنا قد تقربنا من دلالة هذا التشبيه الذي لا يمكن أن يسد مسده غيره ، وصاحبه عليه الصلاة والسلام قد أوتي مجامع الكلم . فالماسك على دينه على سبيل المثال يعاني في صلاته التي لا يبلغ فيها شأو صحابة ولا تابعين ولا تابعي التابعين ، ومصدر معاناته أنه لا يعرف معنى للخشوع لأنه عرضة للسهو والذهول من تكبيرة الإحرام إلى سلام الخروج من الصلاة ، يشرد بذهنه وقد شغلته هموم ومغريات الحياة الدنيا التي جعلها الله تعالى زينة وفتنة . وهذا السهو أو الشرود يؤلمه لأنه لا يحصل له يقين واطمئنان بأن الله عز وجل يقبلها منه ، ولا يأمن أن ترد عليه ،ويقذف بها وجهه، ولا ترفع كما كانت ترفع صلوات السلف الصالح . وتزيد من معاناته وساوس الوسواس الخناس التي لا تفتر ولا تتوقف بل هي أشد وأقوى ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل ولو استعاذ بالله منه . وتزيد من معاناته أيضا آيات يتلوها أو تتلى عليه فيها النهي الذي لا ينتهي عنه ، والأمر الذي لا يأتمر به، وهو بذلك سيء الحظ لأنه وجد في الزمن الذي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتنه المظلمة ظلمة دامسة . وهكذا تتعدد معاناته، فيرى نفسه مرة منافقا ، وأخرى خاسرا قد شغل عن ذكر الله عز وجل بماله وولده ، وثالثة غير منته عن فحشاء أو منكر لا تنهاه صلاته عنهما ... إلى غير ذلك من الهواجس التي تحرق قلبه حرقة أشد من حرقة راحة اليد بالجمر .
ومن أمثلة معاناته وهو يخوض غمار الحياة انخراطه مضطرا في ما ساء من معاملات مادية ومعنوية يجرفه تيار فساد وضلال وهو يجرف الناس من حوله ، فيعاني بسبب ذلك أشد من معاناة الماسك على الجمر، وهو كاره لما يصدر عمن يحيطون به ولكنه منجرف في تيارهم ، وهذا ما يزيد من آلامه ومعاناته ، ولا يجد عزاء إلا في قول الله تعالى : (( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) وحتى هذا لا يطمع فيه لأنه لا يثق في طمأنينة قلبه بالإيمان إذ لو كان كذلك لما جرفه تيار الفتن التي تجعل الحليم حيرانا فكيف به وهو لا حلم له ولا صبر ولا ثبات على دينه ؟
ومما سعّر نيران الفتن في هذا الزمان ما طرأ على الحياة التي ظهر فيها من العجب العجاب مما لم يكن في حسبان ولا خطر من قبل على بال وهي التي يصدق عليها قول القائل : " إذا حلت أوحلت، وإذا جلت أوجلت ، وإذا غلت أوغلت ، وإذا كست أوكست ، وإذا أينعت نعت ، وإذا أوشكت شكت ، وإذا أقبلت بلت ..." فمع مطلع كل يوم جديد تطلع معه عجائبها المذهلة التي لا يزداد معها الماسك على دينه إلا حيرة وألما ومعاناة .
وأشد ما يؤلم الماسك على دينه أنه يرغم على ما لا يقبله ولا يرضاه وهو يخوض غمار الحياة أو بدقيقة العبارة يخوض الابتلاء وإلا وضع في قفص اتهام ، وقدت له تهم تشيب لسماعها الغربان ، ذلك أن الماسك على دينه ذكرا كان أو أنثى في هذا الزمان متهم في لباسه وهندامه إذا ما حاول ستر ما أمره دينه بستره ، ومتهم في قوله إذا قال ما قاله الله تعالى، وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر أن سأل قاض في بلد عربي نظامه شمولي داعية عن السر وراء افتتاح كلامه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والماسك على دينه لا حق له لا في استجمام ولا استحمام على شاطىء أو في مسبح ، ولا في تجول في شارع ، ولا في جلوس في مقهى ... إلا إذا طاوع تيارا جارفا من العري والاختلاط والتهتك ... وما لا يوصف من موبقات .
والماسك على دينه يعاني من الصاحبة ،ومن البنين والبنات، ومن الأهل والجيرة و من الصحب والأصدقاء وقد جرفهم جميعا تيار الفتن المظلمة ، فيتألم لحال صاحبة لم يعد هواها يوافق هواه ، ويتألم لبنين وبنات يكاد ينكرهم وقد صاغهم التيارالجارف غير الصياغة التي تمناها لهم ، و يتألم لجيرة لا يرعون حق جوار ، و يتألم لصحب وأصدقاء لا يدوم لهم ود ، ولا يذكّرونه بالدين الماسك عليه ،ولا يعينونه عليه بل ينكرون عليه مسكه وتمسكه .
ونختم بالسؤال : هل أتى على المسلمين زمن القبض على دينهم كقبض القابض على الجمر ؟
ولكل قابض على دينه اليوم نقول ما قاله الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا )) ،عسى أن يجد الماسك على دينه في قوله تعالى هذا عزاء .
وسوم: العدد 939