( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
مما أمر به الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في محكم التنزيل قص القصص لغاية التفكر بعد غفلة أو نسيان، فقال جل شأنه : (( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون )). ولقد قص سبحانه وتعالى على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام قصص الأمم السابقة والغابرة ليقصها بدوره على أمته كي يحصل لها التفكر من أجل الاعتبار والاتعاظ . وفي قوله تعالى (( لعلهم يتفكرون )) تحذير واضح مما وقعت فيه الأمم السابقة من مخالفة أوامره في اعتقادها ، أوفي معاملاتها وأحوالها وأمور معاشها .
ومن تلك القصص قصة نبي الله شعيب عليه السلام مع قومه، وقد تكررت في الذكر الحكيم كغيرها من قصص أنبياء ورسل آخرين مع أقوامهم لتأكيد الغاية من قصها وهي حصول التفكر الذي به يحصل الحذر ، ومن ثم يفضي إلى الاستقامة على صراط الله المستقيم .
ومما جاء في قصة نبي الله شعيب عليه السلام مع قومه قوله تعالى : (( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ )).
فهذا النص القرآني تناول فساد قوم نبي الله شعيب عليه السلام ، وهو فساد مركب شمل اعتقادهم ومعاملاتهم ،علما بأن الاعتقاد يتحكم في المعاملات صلاحا أو فسادا حيث تفسد هذه الأخيرة بفساد الأول أو تصلح بصلاحه . ولما كان شرك قوم شعيب مفسدا لاعتقادهم كما دل على ذلك قول نبيهم : (( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) ،وهو قول يفيد أنهم كانوا يتخذون آلهة يعبدونها من دون الله ، فإن فساد اعتقادهم أفضى بهم إلى فساد معاملاتهم وتجلى ذلك في نقص المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم . والبخس هو النقص، ويكون في المعاملات الفاسدة بيعا أو شراء حيث يبخس المشتري البائع أو العكس ، وكان قوم شعيب يمارسون البخس بيعا وشراء ، وهو فساد في الأرض لأنه بسببه تسوء العلاقات بين المتعاملين فيما بينهم بالبخس ، ويفضي ذلك إلى الصراع والاقتتال والهلاك .
والبائع الباخس هو من يرفع من قيمة سلعته ، و في المقابل يقلل من قيمة مال من يشتريها منه ، كما أن المشتري الباخس هو من يرفع من قيمته ماله ، وفي المقابل يقلل من قيمة سلعة غيره ، وكل ذلك طلب لربح غير مشروع من خلال معاملات مختلة بعيدة عن استقامة الكيل والميزان بالقسط .
ومما حذر منه نبي الله شعيب قومه أنهم كانوا في غنى عن تلك المعاملات الفاسدة والجائرة ، وقد أغناهم الله تعالى عنها إذ كانوا يعيشون في بحبوحة من العيش لا تحوجهم إلى نقص أو بخس في معاملاتهم وهو ما دل عليه قوله لهم : (( بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين )) ، و هذا تحذير منه عليه السلام وهو عبارة عن إشارة إلى تضييع ما هم فيه من رغد العيش بسبب فساد معاملاتهم . ولقد جاءت إشارته إلى أنه كان ناصحا لهم، ولم يكن مكرها لهم ، وهو ما دل عليه قوله " (( وما أنا عليكم بحفيظ )) وهو قول دال على صدق النصح ، وحري بناصح لا يكره غيره على الانتصاح أن يصدق في نصحه ويطاع . ولقد بعث الله عز وجل رسله وأنبياءه الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ناصحين لا مكرهين أقوامهم على الأخذ بنصحهم ، وهو ما يؤكد قوله تعالى مخاطبا رسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ )) . والبلاغ لا يكون أبدا إكراها ، وهو ما يؤكده أيضا قوله تعالى : (( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) .
ولما كان الاعتقاد هو المتحكم في المعاملات ، فإن الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا يحرصون على تصحيح اعتقاد أقوامهم أولا قبل تصحيح معاملاتهم . وإذا ما تأملنا ما جاء في قصص الأمم السابقة في القرآن الكريم نجد أن فساد معاملاتهم المادية والمعنوية على حد سواء كان مترتبا عن فساد اعتقادهم بالضرورة .
ولما كان القصد من قص القصص هو التفكر من أجل العبرة ، فإن قصة قوم شعيب فيما يخص فساد معاملاتهم المادية المتعلقة بالكيل والميزان تدعونا إلى أخذ العبرة لتجنب سوء عاقبتهم . وأول ما يجب التفكير فيه هو تصحيح الاعتقاد مما يفسده . وليس الكفر والشرك وحدهما مما يفسد الاعتقاد بل هناك أنواع من الفساد لا يلقي لها كثير من الناس بالا كأن يصرحوا بالإيمان والتوحيد بألسنتهم ويأتون من الأفعال ما ينقض إيمانهم وتوحيدهم، ذلك أن من يأتي ما حرّم الله عز وجل يفسد بذلك إيمانه إذ كيف يمكنه أن يوفق بين الإقرار لله تعالى بالألوهية والربوبية والعبودية ، وهو يخالف أوامره، ولا ينتهي عن نواهيه ، ولا يلتزم بشرعه بل يتبع شرائع غيره من الخلق ، وهو بذلك يقع في أقبح أنواع الشرك حين يضع شرائع الخلق محل شرع الله تعالى .
مناسبة حديث هذه الجمعة أن كثيرا من المسلمين يعبرون عن تذمرهم من فساد معاملاتهم المادية والمعنوية دون مراجعة فساد الاعتقاد الذي هو سبب فساد المعاملات بالضرورة . ولا يمكن لأحد اليوم أن ينكر شيوع الفساد في معاملاتنا كما كان الحال عند قوم شعيب وربما أكثر وأقبح حيث نعاين الغش الصراح في كل معاملاتنا ، وطغيان النقص في المكيال والميزان ، وبخس الناس أشياءهم مادية ومعنوية على حد سواء . وقد صار الغالب على معاملات الناس الفساد والغش والتدليس والنقص والبخس ، فلا نكاد نجد بينهم التعامل بالقسط ، ولا نكاد نجد بائعا أو مشتريا نزيها مقسطا غير باخس . وقد يتفاخر الناس فيما بينهم بشطارتهم في البخس مستخفين بمن يخسوهم أشياءهم أو جهودهم أو أعمالهم أو مواقفهم ... وهم بذلك يسخرون مما يظنونه غفلة أو قلة خبرة أو من سذاجة .
وإذا كان كثير من الناس في زماننا هذا لا يعتبرون البخس إلا ما مس ما هو مادي ، فإنهم يغفلون عن بخس ما هو معنوي، وهو لا يقل شناعة عن الأول، ذلك أن من يبخس على سبيل المثال موقفا مشرفا أو مجهودا معتبرا أو قولا سديدا أو فعلا صالحا ... فإنه كمن يبخس سلعة جيدة أو يبخس ثمنها ، فكل ذلك ظلم وفساد في الأرض .
والشائع اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت مع شديد الأسف إلى آفة خطيرة تشيع الفساد في الأرض، وكان من المفروض أن تشيع الصلاح فيها أنها أصبحت وسائل بخس الناس في أعمالهم وجهودهم ومواقفهم بسبب فساد اعتقاد الناس الذين صار عندهم سوء الظن بغيرهم عقيدتهم ، وصاروا لا يتورعون عن البهتان، والكذب ، والقذف ، والتجريم ... فينسبون لغيرهم مفاسد من صنع خيالهم وافترائهم لا يرعون فيهم إلا ولا ذمة غافلين كل الغفلة عن المساءلة الأخروية بين يدي الله عز وجل يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، ويوم لا ظلم .
وإنه ليجدر بنا أن ننتبه أولا إلى ما دخل إلى اعتقادنا من فساد مهما كان نوعه أو مصدره قبل أن نصلح ما طرأ على معاملاتنا من فساد يتمثل في بخس يطال مادياتنا ومعنوياتنا على حد سواء .
اللهم رد بنا إليك ردا جميلا رفيقا عاجلا ، وتداركنا يا ربنا بألطافك الخفية قبل أن نذل و نخزى . اللهم إن الفساد قد استشرى فينا وأنت أعلم بحالنا فارفق بنا ، وأصلح ما فسد في اعتقادنا ، واصلح بذلك فساد معاملاتنا المادية والمعنوية على حد سواء . اللهم إنا نعوذ بك من سفه السفهاء ، ونعوذ بك أن نؤاخذ به .
اللهم إنا نعوذ بك من الوباء الذي طال مكثه بيننا ، فعجل برحيله بلا رجعة ولا عودة ، ولا تجعل له متحورا يعقب بعضه بعضا . اللهم سدد سعي ما يقاومونه بصدق وإخلاص بما أتحت لهم من فضلك وعونك ، اللهم اهد المتهورين في الوقاية منه إلى ما يلزم من حيطة وحذر ويكون ذلك خوفا منك قبل الخوف منه لأن أمره بيدك ، ولا كاشف له إلا أنت، ولا واقي منه سواك . اللهم لا ترد لنا هذا الدعاء و أنت تعلم أنه ليس لنا من نقف ببابه سواك أونقرع سواه وهو الذي لا توصده في وجوه أحد من خلقك يا مولانا ويا سيدنا ويا أرحم الراحمين ، اللهم إنا نسألك استجابة دعائنا بالذي استأثرت بعلمه والذي لا علم لنا به إلا ما علمتنا من أسمائك الحسنى وصفاتك العلا ، ووفقنا اللهم إلى استعطافك بها على الوجه الذي تعطف به ، و تجود وتعطي ولا تمنع ، وتعجل العطاء ولا تؤخره ، وتكثره لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا خاطئين وظالمين وأنت أرحم الراحمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 942