انسداد الأفق عسكرياً أمام إسرائيل نذير لها بزوالها
آمن قادة المشروع الصهيوني إيمانا راسخا أن دولتهم في فلسطين لن تقوم ولن تدوم إلا بوسائل ثلاث ، هي القوة العسكرية أو الحديد والنار حسب أدبياتهم ، والسياسة والخديعة . وفعلا أقامت تلك الوسائل إسرائيل وأدامتها 73 عاما ، وكان للقوة العسكرية أفعل دور في تلكما الإقامة والإدامة . انتصرت في حرب 1948 على سبع دول عربية ، وفي 5 يونيو 1967 صعقت من يعاديها ويحاربها من العرب بهزيمة سريعة خاطفة . وباغتتها مصر وسوريا في أكتوبر بما خلخل ثقتها في قوتها العسكرية إلا أنها ما لبثت أن تماسكت ، وفي اتفاقية كامب ديفيد في 1979جنت مكاسب سياسية لأدائها العسكري وإن بمساندة أميركية تداركت إخفاق المباحثات بينها وبين مصر حين رفض السادات المادة السادسة في الاتفاقية التي تنص على أن الأولوية ستكون لهذه الاتفاقية إذا ما تعارضت معها أي اتفاقات لمصر مع أي دولة أخرى ، فأجبر الرئيس الأميركي كارتر السادات على قبول تلك المادة . ومن المفارقات التاريخية الكبيرة أن الاصطدام الحاسم لحقائق حدود القوة العسكرية الإسرائيلية وقع في الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 التي لم يستعمل فيها الشعب الفلسطيني السلاح إلا في النادر العابر مكتفيا بالحجارة ، فسميت انتفاضة الحجارة . ووقع ذلك الاصطدام حين أخفق الجيش والمخابرات الإسرائيليان في وقف الانتفاضة الشعبية ، التي كان الصبيان والشبان هم جنودها ، بعد أن هدد رابين وزير الدفاع الإسرائيلي بتكسير عظامهم . ويأسا من وقفها اقترحت القيادة العسكرية الجنوبية على القيادة السياسية الانسحاب من غزة . وبعدئذ شرعت إسرائيل في الإعداد والاستعداد لخطوات سياسية ، فكان مؤتمر مدريد في 30 أكتوبر 1991، وكانت أوسلو في 1993. وفي مايو 2000 هوت على رأس القوة العسكرية الإسرائيلية ضربة هائلة عندما أرغمتها المقاومة الإسلامية اللبنانية بقيادة حزب الله على الانسحاب فرارا من الجنوب اللبناني . وخلقت حربها مع حزب الله في يوليو 2006 توازن ردع مازال قائما ، حمى لبنان من تعدياتها وعربدتها في بره وبحره وسمائه . وفعلت حروب إسرائيل الأربع على غزة فعلها البعيد التأثير ، خاصة الحرب الرابعة ، في ضعضعة ثقتها في فاعلية قوتها العسكرية لفرض إرادتها في المنطقة . ورافق تراجعاتِها العسكريةَ منذ مايو 2000 ظهورُ التحدي الإيراني لهذه العسكرية ، فانتهت إلى انسداد أفقها الحالي الذي انكشف في وضوح في ردع حزب الله لها منذ أيام عن كسر التوازن أو المعادلة التي تلت حرب 2006 المؤسسة على الرد على عدوانها بمثله أو بأشد منه عند الضرورة ، وبادرت قيادة جيشها إلى بيان أنها لا تريد التصعيد في جبهة الشمال . وصعبٌ صادمٌ لكيان اعتاد على حل خلافاته ونزاعاته في المنطقة بالقوة العسكرية أن يصطدم بما يردعه عن هذا الحل . وتكبر هذه الصعوبة الصادمة المحبطة نظرا لاستعانة هذا الكيان بهذه القوة العسكرية لوقاية معنويات وآمال مستوطنيه في الاستقرار الآمن في أرض اغتصبوها ، وفي بيئة إقليمية معادية تتربص بهم أي حالة ضعف ، ولا يهدىء من عدائها ويقلل من تربصها إيقاع خطوات التطبيع مع أنظمة تعلم إسرائيل أن شعوبها في وادٍ ، وهذه الأنظمة في وادٍ آخر بعيد عنه . فماذا ستفعل لفتح هذا الأفق العسكري المنسد ؟! لا شيء ، فلا هي قادرة بقوتها العسكرية على حل مشكلتها المصيرية المزمنة مع الفلسطينيين ، ولا هي قادرة على كسر قدرة حزب الله على ردع حريتها في العدوان والتطاول على لبنان ، ولا هي قادرة بهذه القوة على دحر النفوذ الإيراني في المنطقة ، وتعطيل تصاعد القوة العسكرية الإيرانية . وتحاول الخروج من هذا الانسداد بمساندة أميركا في مواجهة حزب الله بإدخال لبنان في أزمات اقتصادية وسياسية متشابكة طاحنة بأمل أن تفضي هذه الأزمات إلى حرب أهلية يطير فيها رأس الحزب . وهي تحض أميركا على حرب ضد إيران قد تشارك فيها بريطانيا وفرنسا وسواهما من الدول الأوروبية . والقائم المشهود أن أميركا التي احتشدت الظواهر والأخبار منذ أشهر للإيحاء بانسحابها عسكريا من المنطقة ؛ تكثف وجودها عسكريا في الأردن للتأثير على الأحداث في سوريا ولبنان والعراق الذي تتجه للانسحاب منه ، وفي فلسطين ، وهذا التكثيف العسكري هدفه طمأنة إسرائيل وحمايتها عقب أن أخفقت في طمأنة ذاتها وحمايتها عسكريا . ومستبعد أن يقوم الوجود العسكري الأميركي بهذه المهمة ، وترتفع في أميركا أصوات تطالب إدارة بايدن بحماية الفلسطينيين من عدوانية إسرائيل ومستوطنيها . هذه دولة وجدت خطأ وظلما ، والزوال مآل كل خطأ متعمد وظلم متمادٍ ، وهذه هي حال إسرائيل ، ولنقرأ ما كتبته " هآرتس " أرصن الصحف الإسرائيلية وأعلاها عقلانية في ختام افتتاحية لها قبل أيام : " وطالما أن تل أبيب ذاقت صواريخ المقاومة فمن الأفضل أن نتخلى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى ، ويجب أن تكون للفلسطيني دولة جارة تسالمنا ونسالمها . وهذا فقط يطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين . وأعتقد أنه ولو بعد ألف عام ، هذا إن استطعنا أن نستمر عشر سنين قادمة كدولة يهودية ، فلابد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة ، فالفلسطيني سيبعث من جديد ، ومن جديد ، ومن جديد ، وسيأتي يوما راكبا جواده قاصدا تل أبيب ." ، وكان عنوان الافتتاحية " الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض " .
وسوم: العدد 942