لماذا لا نرحب بعودة طالبان؟
شهر أغسطس/ آب شهر انتصارات الأفغان على الامبراطوريات الكبرى، ففي 19 اغسطس 1919 كان الانتصار الأول والاستقلال عن بريطانيا، وفي 15 أغسطس تم الانسحاب السوفيتي بعد احتلال دام عشر سنوات، والانتصار الثالث يتم الآن في أغسطس/ آب 2021 بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بعد احتلال استمر عشرين عاما، ولخص الرئيس الأمريكي بايدن القصة وهو يبرر انسحابه بقوله: “لا يمكن لقوة أيا كانت أن تغير الواقع في أفغانستان، فهي مقبرة الامبراطوريات الكبرى” !
لم يتوقف الأمر عند هزيمة الامبراطوريات الكبرى فحسب، بل رأينا أن هزيمة الأفغان لكل واحدة منها كان بداية لذهاب سطوتها وتفكك وحدتها، حيث انكمشت بريطانيا ونزلت عن عرشها الاستعماري الذي كان لا تغيب عنه الشمس، وتفكك الاتحاد السوفيتي تماما إلى عدة دول، وتوقع الكاتب والمحلل البريطاني ديفيد هيرست المصير نفسه لأمريكا، وأن هزيمتها في أفغانستان هو بداية العد التنازلي لذهاب هيمنتها وفقدان هيبتها.
في الوقت الذي يعترف فيه قادة الغرب بهزيمتهم وانتصار طالبان عليهم، تجد من المسلمين بل ومن الإسلاميين من يشكك في الهزيمة، أو يحاول فرض ظنونه على المشهد، وبث الريبة تحت شعار الحكمة والروية، في الوقت الذي يقول فيه تشاك هاغل (وزير الدفاع الأمريكي الأسبق) عن انتصار طالبان: “لم نفهم تاريخ أفغانستان على الإطلاق فهي لم تُحكم من قبل من خلال حكومة مركزية، بريطانيا والسوفيت حتى الإسكندر العظيم كلهم أدركوا ذلك، أما نحن فلم نفهم العادات أو الدين أو القبلية التي تؤسس لثقافتهم، وهذا حالنا بعد تدخل 20 عاما وإنفاق تريليوني دولار”.
طالبان هي الفصيل الأفغاني الوحيد الذي رفض الاحتلال الأمريكي واستمر في مقاومته على مدار العشرين سنة الماضية، منعت أمريكا خلالها الإعلام المحايد من نقل الصورة من داخل أفغانستان، مما جعل البعض يتوهم أن هذا الانتصار تم خلال أشهر المفاوضات الأخيرة التي توجت بالانسحاب، وفاتهم أن طالبان قدمت الآلاف من شهدائها، وكبدت أعداءها خسائر بشرية ومادية هائلة، هي التي أرغمتهم على الانسحاب.
بقي فريق يعرف حقيقة ما دار على أرض الأفغان، لكنه يغض الطرف عمدا عن انتصار طالبان، وإن تحدث، تحدث على استحياء في عموميات بعيدا عن صناع النصر وقادة الفتح، ليس للاختلاف الفكري والمنهجي مع طالبان، ولكن لخوف المقارنة بين المنهجين والنتيجتين، والحقيقة أن لكل تجربة ظروفها وملابساتها، ولكل بلد طبيعته وخصوصيته، ولكل معركة سلاحها المناسب وطريقة إدارتها المختلفة، لكن التعاطف المتناهي مع سيل التنازلات الذي تقدمه حركة النهضة في تونس، في مقابل الريبة المتنامية من انتصارات حركة طالبان في أفغانستان، يؤكدان أن الانتماء حجاب، والتعصب يحجب رؤية الصواب، وأن الأحكام المسبقة مفسدة متحققة، أما الذين لا يعجبهم أن تكون طالبان في سدة الحكم خوفا من تشددها مع الشعب الأفغاني وكأنه أرأف بالأفغان من أنفسهم، فهذا أمر بالغ الخطورة لأنه تفضيل للاحتلال على حكم طالبان، واصطفاف في صف عتاة الغلاة في كره الإسلام، كالرئيس الفرنسي ماكرون وأمثاله، الذين يزعجهم الإسلام في كل صوره وأحواله !
سبق لحركة طالبان أن حكمت أفغانستان خمس سنوات من 1996 إلى 2001 حتى أزاحها الاحتلال الأمريكي، وعند انتصارهم عليه رحب الشعب الأفغاني بعودتها، ودخلت الأقاليم تحت حكمها دون مقاومة تذكر ،فلو كانت فترة حكمهم السابقة مرفوضة من الشعب لعارض عودتهم مرة أخرى، بل رأينا الجيش الأفغاني الكبير الذي يصل عدده إلى ثلاثمائة ألف مقاتل، والذي أنفقت عليه أمريكا مئات الملايين وسلحته بأحدث الأسلحة، ودربته أحسن تدريب لم يشتبك مع قوات طالبان، وسلم سلاحه طواعية وعاد إلى مساكنه في أمان، لاسيما بعد العفو العام الذي أعلنته الحركة عن كل المخالفين والمتعاونين مع الاحتلال، وطلبها من الموظفين الاستمرار في وظائفهم ، وهذا يدحض رواية من صور فرار بعض الأفغان إلى مطار كابل على أنه خوف من حكم طالبان وانتقامها ممن تعاون مع الأمريكان، ولا يخفى على المتابع أن بريق الحياة في أمريكا يداعب خيال الكثيرين في شتى بقاع الدنيا، ولو أن طائرة أمريكية فتحت أبوابها في أي بلد من بلاد الاستبداد لتسابق إليها أضعاف هؤلاء الأفغان، كما يحمل المشهد في طياته دلالة أخرى، وهي أن أمريكا لو خرجت أو رفعت حمايتها عن الحكام المستبدين في بلاد المسلمين، لرأيت سقوطهم أسهل من فتح كابل، وهروبهم أسرع من فرار أشرف غني رئيس أفغانستان.
وسوم: العدد 944