لا وجود لحقوق إنسان تبلغ شأو تلك التي جاء بها القرآن وعدم احترامها إنما هو فعل الإنسان
بعد أحداث أفغانستان الأخيرة أثار الغرب العلماني ضجة كبرى بخصوص قلقه الكبير على حقوق الإنسان بعد رحيل القوات الأمريكية عن أرض أفغانستان ،وسيطرة حركة طالبان على مفاليد الأمور فيها .
وأول سؤال يفرض نفسه على ذي عقل سليم هو: هل كان الإنسان الأفغاني، وهو تحت نير الاحتلال الأمريكي مدة عشرين سنة مسلوب الحرية ، وهي أقدس حق يأتي على رأس كل الحقوق متمتعا بحقوقه كإنسان ؟
أما السؤال الثاني الذي يلي الأول فهو : متى كان المحتل في تاريخ البشرية الطويل يصون حقوق من يحتل أرضهم حتى يصير قلقا بشأنها ؟
إن الشعب الأفغاني الذي اختار الإسلام دينا، ولم يفرض عليه بحد السيف كما يشهد التاريخ على ذلك ،يعرف جيدا الحقوق التي أعطاه الله تعالى في آخر رسالة للبشرية قاطبة والمنزلة على أشرف المخلوقين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد رضي به دينا . وإنه لعلى يقين أنه لا وجود لحقوق إنسان تبلغ شأو تلك جاء بها القرآن الكريم ، وهو على يقين أيضا أن الإخلال بهذه الحقوق إنما تقع مسؤوليته على الإنسان سواء كان هذا الإنسان طالبان أو غيره ممن يحسب على الإسلام .
وإن تصريحات الغربيين هنا وهناك في عواصم بلدانهم تتمركز حول هاجس الخوف على حقوق الإنسان من طالبان ، وقد جعل احترامها شرطا للتعامل مع هذه الجماعة التي توالت من المتحدثين باسمها تصريحات والتزامات مطمئنة لكل العالم بأنها خلاف ما يتوقع منها وما يظن بها الغرب من ظنون.
ولا يمكن تبرئة حركة طالبان من أخطاء ارتكبتها في السابق بسبب تطرف في تطبيق تعاليم الإسلام مرده سوء فهم قيمه الإنسانية وعلى رأسها شعاره المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل وهو : (( لا إكراه في الدين )) ، وهو خلاف الذي تبنته الحركة في السابق ، وكان خطأ لا يقرها عليه مسلم صحيح الفهم لتعاليم الإسلام .
ومعلوم أن الذي أغرى الناس في الماضي، وسيظل يغريهم باعتناق هذا الدين عن رضى وعن طيب خاطر، هو قيمه الإنسانية الراقية التي لا يمكن أن ترقى إليها قيم وضعية مهما كانت، والسبب أن قيمه صناعة إلهية منزهة عن العيب بينما القيم الوضعية صناعة بشرية معرضة للعيب مهما حرص واضعوها على الرقي بها . ولئن شابهت القيم الوضعية قيم الإسلام ، فإنها ستكون من فضله عليها لأنها عالة عليه في كل الأحوال .
وإن الغرب في قلقه على حقوق الإنسان في ظل حكم طالبان إنما هو في الحقيقة قلق على قيمه العلمانية التي لا يقر منها الإسلام إلا ما وافق قيمه ، وهو ما يجب على الغرب أن يستحضره وهو يحاور أو يفاوض تلك الحركة في شأن موضوع حقوق الإنسان لحملها على تبني قيمه التي يحاول فرضها وعولمتها ، وهو بذلك يقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه هي حين تبنت فكرة مخالفة لفكرة ((لا إكراه في الدين )) لأنه إذا كان لا إكراه في الدين ،فمن باب أولى ألا إكراه فيما دونه مهما كان .
وإذا كان الشعب الأفغاني قد اختار الإسلام دينا عن اقتناع ورضى ، فلا فضل لحركة طالبان عليه في ذلك لأنها لم تأت بهذا الدين بل جاء به المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الفضل في ذلك على العالمين .
وإذا ما اختار هذا الشعب المسلم من قيم دينه ما لا يساير قيم الغرب العلماني، فلا يعقل أن يلام على ذلك لا هو ولا حركة طالبان التي يحتضنها ، ولنمثل لذلك بلباس المرأة الأفغانية، وهو لباس من بين عشرات الألبسة في العالم الإسلامي التي تفي كلها بما أمر الله عز وجل المرأة المسلمة في محكم التنزيل مع اختلافها في أشكالها باختلاف الثقافات والأعراف . ولا يعقل أن تقبل بعض البلاد في الغرب العلماني ارتداء المرأة المسلمة بعض تلك الأشكال بينما ترفض غيرها كما هو الحال بالنسبة للباس المرأة الأفغانية المسلمة الذي يحكمه دين وثقافة في نفس الوقت دون أن تناقض الثقافة الدين .
وإذا ما أصرت حركة طالبان على فرض شكل معين من اللباس على المرأة الأفغانية، فسيكون موقفها شبيها تماما بموقف بعض البلاد الغربية التي تفرض على المرأة المسلمة التي تعيش فيها شكلا معينا من اللباس ، وفي الحالتين معا ستكون النتيجة واحدة بحيث ستصادر حرية هذه المرأة المسلمة في اختيار لباسها ،وذلك حق من حقوق الإنسان الذي يعبر الغرب عن قلقه بخصوصه بعد استقلال أفغانستان وجلاء الاحتلال الأجنبي عنها دون الشعور بنفس القلق في بعض بلدانه .
وعلى طالبان أن تغير من سلوكها بخصوص هذا الأمر رافعة شعار : (( لا إكراه في الدين )) ، لأن الإكراه فيه لا يعطي مسلما أو مسلمة يصح إسلامهما.
وعلى الدول الغربية العلمانية أن تغير هي الأخرى أيضا من سلوكها بخصوص هذا الأمر، لأن الإكراه في العلمانية كذلك لا يعطي علمانيا أو علمانية مستقيمة علمانيتهم.
ولعل حوارا حضاريا راقيا بين حركة طالبان والدول الغربية العلمانية من شأنه أن يجعل كل طرف يتحلى بالشجاعة الأدبية وبالروح الرياضية كما يقال لقبول الآخر والتعايش الإيجابي معه ما دام أسلوب الاستئصال قد ثبت فشله وانحطاطه الحضاري . ومن يدري قد يكون هذا الحوار بداية علاقة جديدة بين العلمانية والإسلام شعاره قول الله تعالى : (( لكم دينكم ولي دين )) ، وتكون علاقة أساسها الاحترام المتبادل، خصوصا وأن بعض البلاد الغربية العلمانية تعرف هذا النوع من الاحترام بين العلمانيين والجاليات المسلمة التي تعيش فيها كما تعرفه جل البلاد الإسلامية التي تعيش فيها الجاليات الغربية ، ونأمل ألا تجعل حركة طالبان أفغانستان استثناء في البلاد الإسلامية .
ولا شك أن تعامل الغرب العلماني مع حركة طالبان تعاملا غير عدائي خصوصا وهي تتعهد بنهج سياسة من شانها أن تجعلها مقبولة لدى المجتمع الدولي، ستضع حدا لتنامي مشاعر الكراهية، وستضع أيضا حدا لأطماع الحركات الإرهابية المتطرفة التي تتذرع بالإسلام لارتكاب الجرائم الفظيعة باسمه وهو منها براء، وهو رافض لها بل يدينه بشدة كتابا وسنة ، وهذا أيضا من شأنه أن يضع حدا لما صار يسمى " إسلاموفوبيا " في البلاد الغربية العلمانية .
وعلى كل دولة غربية علمانية ساهمت بشكل أو بآخر في احتلال أفغانستان أن تتحمل ما عليها من مسؤولية لإعمارها، وذلك لجعل الشعب الأفغاني ينعم بما تنعم به شعوبها من عيش كريم بعد عقدين من العيش البائس تحت نير الاحتلال .
وأخيرا نأمل أن يكون ما حدث في أفغانستان بداية عهد جديد ، وبداية نظام عالمي بديل عن نظام الرهان على سيادة منطق القوة عوض الرهان على سيادة منطق القيم الإنسانية .
وسوم: العدد 945