الديمقراطية هي الحل ( ولكن ...)
بعد الانتخابات الديمقراطية المبشرة التي شهدها "الربيع العربي" وبعد النكسات والانقلابات المضادة التي أجهزت على هذه البشرى .. باتت الأمة أشد إصراراً ومطالبة بالديمقراطية، للاعتقاد بأن الديمقراطية هي الحل السحري لكل كوارثنا العربية الراهنة .
لكن .. مع إيماننا بالحل الديمقراطي إلا أن هناك جوانب وحقائق لا بد من إدراكها قبل التسليم بهذا الحل؛ فالديمقراطية المستدامة لا تتحقق في الفراغ؛ بل تحتاج بنية تحتية صلبة تقوم عليها، وهي بنية تتطلب جملة من المبادئ والأسس الفكرية والخطوات العملية، التي نوجزها فيما يأتي :
1 – نسبية الرأي والفكر : تؤمن الديمقراطية بنسبية الرأي والفكر، ونسبية الصواب؛ ولهذا ترفض التعصب للرأي، وترفض أدعياء الحقيقة المطلقة، ومع حرص الديمقراطية على الصواب فإنها في الوقت نفسه ترى أن كل صواب قد يكون ما هو أكثر صواباً منه، وأكثر ملاءمة لمصلحة الناس، ولهذا تفتح الديمقراطية الباب لكل رأي، وتسمح بمناقشة كل رأي حرصاً على الوصول إلى ما هو أفضل وأصلح، وقد لخص الإمام الشافعي (ت204هـ/820م) ظاهرة النسبية هذه في مقولته العظيمة : (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) وعبر الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694 -1778م) عن هذه النسبية بطريقة أخرى، فقال: (إني أخالفك الرأي، لكني مستعد للدفاع حتى الموت عن حقك في إبداء رأيك) فمن أراد الديمقراطية حقاً؛ عليه أن يؤمن بحق الآخرين في إعلان آرائهم، والإصغاء لهم، مهما وجدنا آراءهم خاطئة، أو شاذة (؟!)
وهكذا يظهر جلياً .. أن الإيمان بنسبية الرأي أساس فكري من أسس الديمقراطية، وهذه النسبية هي التي تجعل مختلف الأفكار والآراء خيارات قابلة للنقاش، وفي هذا إثراء للفكر، وتنمية للعقل، وتطوير للحياة .. وقد قدم لنا التاريخ أدلة عديدة على أن الرأي الذي نرفضه اليوم، قد يكون طوق النجاة في الغد .
ومن هنا كان الإيمان بنسبية الرأي والفكر سر الإبداع والتقدم، لأنه هو الذي يثري الساحة الفكرية، ويسمح بالمراجعة والتصحيح .
2 - نبذ العنف : ومن أجل حماية الفكر ترفض الديمقراطية مواجهة الرأي الآخر بالعنف، فلا ديمقراطية في أجواء تقدس العنف، ومن هنا كانت كثرة النصوص في الكتاب والسنة التي تحذر من العنف، وتدعو إلى الحوار "بالتي هي أحسن" وترغب بالرد الحسن حتى على العدوان (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) سورة فصلت 34، بل نصوص عديدة تمنع رد العنف بالعنف (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) ونصوص تدعو إلى الصلح ما أمكن ذلك "والصُّلْحُ خَيْر" وترجع كثرة هذه النصوص إلى أن نبذ العنف هو صمام الأمان لنمو الفكر وتحقيق السلم الأهلي، ومن هنا كان نبذ العنف من أنجع لقاحات الديمقراطية، فلا أخطر على البلاد والعباد من وباء العنف !
3 - تحصين الدستور : الدستور هو القانون الأعلى في نظام الدولة الديمقراطية، فهو الذي يحدد القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، وهو الذي يؤسس السلطات العامة في الدولة، ويحدد وظائفها، ويضع الصلاحيات والحدود والقيود الضابطة لأنشطتها، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويضع الضمانات لحمايتها؛ وبناء على هذه المبادئ كان الدستور قمة البناء القانوني للدولة الديمقراطية، وكانت سيادته هي الضمانة للحريات والحقوق داخل الدولة، فإذا سقطت هيبة الدستور سقطت الديمقراطية سقطت الدولة فريسة للدكتاتورية، وهذا ما نراه يتكرر في الأنظمة الشمولية، والأنظمة العسكرية .. فإذا أردنا الديمقراطية حقاً وجب علينا تحصين الدستور من العابثين، وتوطين أنفسنا على التضحية بأرواحنا حماية للدستور .
4 – تطهير السياسة من العسكر : لم تنجح التجارب الديمقراطية الحديثة إلا بعد كف أيدي الجيش وأجهزة الأمن عن السياسة، فالدول العريقة في الديمقراطية مثل بريطانيا لم يسمح فيها لأي ضابط من تولي الحكم، وكذلك فعل الفرنسيون الذين رغم تعظيمهم مثلاً لمنجزات القائد العسكري "نابليون بونابرت" ظلوا من بعده يرفضون دخول أي ضابط ميدان السياسة أو تولي الحكم، ومن هذا المنطلق ظلوا يعارضون سعي "الجنرال ديغول" لتولي الرئاسة، وحتى بعد أن أفلح في الوصول إلى الحكم، ظلوا يكيلون له التهم، ويؤلفون ضده النكات والتعليقات الساخرة، ويجدر بنا أن نذكر بحرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عزل القائد الكبير خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، وقبول خالد لهذا العزل مع أنه كان في قمة النجاح، فهذه البادرة المبكرة جداً في تاريخنا السياسي تحسب للكبيرين عمر وخالد، وهي بادرة تكشف مقدار الخيانة التي ترتكب اليوم بحق تراثنا الإسلامي الغني بالمبادرات العظيمة في السياسة وفي غيرها من شؤون الحياة، فقد أسفرت بعض هذه الخيانات عن إدمان الانقلابات العسكرية وما تجره على البلاد من دمار !
لقد أدركت البلدان الديمقراطية ضرورة قصر صلاحيات العسكَر على حماية الحدود، وتطوير مؤسسات الجيش .. وهذا ما نجح فيه الزعيم التركي "رجب طيب أردوغان" حين تخلص من التركة العسكرية الثقيلة التي خلفها سيء الذكر "مصطفى كمال أتاتورك"فقد أعاد أردوغان دستورياً تشكيل دور العسكر في الدولة، وأعاد هيكلة مؤسسات الدولة وتشريعاتها الدستورية والقانونية بما يتلاءم مع معايير الديمقراطية، وتعزيز دولة القانون، ونذكر من تلك الخطوات :
- إلغاء عضوية العسكر في المجلس الأعلى للتعليم، وفي اتحاد الإذاعة والتلفزيون .
- السماح برفع الدعاوى القضائية ضد الجنرالات في قضايا الفساد .
- منع التصريحات الإعلامية للجنرالات في الشؤون السياسية .
- إلغاء محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وحصر عمل هذه المحاكم في الشؤون العسكريّة، مع تعديلات في أصول المحاكمات العسكريّة، بهدف زيادة الشفافيّة، والاستقلاليّة، والنزاهة، وتقليص سلطة العسكريين على الحياة السياسية، والمدنية .
- إلغاء المواد الدستورية التي كانت تعطي الجيش، ومجلس الشورى العسكري صلاحية فصل الجنرالات من الجيش، وهي المواد التي كانت تستخدم لإبعاد القادة ذوي الميول الإسلامية عن الجيش .
لقد قلمت هذه التعديلات أظافر العسكر، ومنعت وصايتهم على السياسة، وجرّدتهم من الحصانة القضائية؛ مما قطع الطريق على الانقلابات مستقبلاً .
5 – الواقعية :
لعل من أهم طبائع الديمقراطية واقعيتها في مواجهة الظروف والتغيرات الطارئة؛ فالديمقراطية تنمو وتتطوّر من خلال تفاعلها العملي مع الواقع المتغير، وهو ما يسميه علماء السياسة بـ "البراغماتية"فالديمقراطية تتطلب التفاعل الإيجابي مع مستجدّات الظرف التاريخي والوعي السياسي للنخب الثقافية .
6 - البنية الدستورية :
إلى جانب الشروط التي ذكرناها لا بد للديمقراطية من تشريعات دستورية تعززها وتحميها، وتضمن تأثيرها واستمراريتها، وهذا المطلب الدستوري تتأكد الحاجة إليه بصورة خاصة في الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، لأن هذا الانتقال يتعرض في هذه المرحلة لعدّة تهديدات، ومنغصات، وإكراهات من قبل أصحاب النزعات السلطوية الذين يجدون فرصتهم التاريخية في هذه المرحلة للقفز إلى المناصب والمكاسب .. ومعالجة هذه التهديدات تحتاج تدابير جادّة حاسمة، لتحقيق النقلة الديمقراطية المنشودة وتعزيزها وحمايتها من غائلة التزييف والانقلابات المضادة .
7 – الفصل بين السلطات :
يعد الفصل بين السلطات (التشريعية، التنفيذية، القضائية) مبدأ رئيساً في الديمقراطية، وهذا الفصل يعادل في أهميته مبدأ سيادة الأمة، وقد شكل هذا المبدأ نقلة نوعية كبيرة في الممارسات السياسية، لأنه انتزع عصا السلطة من يد الحاكم المطلق، ووزعها على هذه السلطات التي تحترم كل منها الأخرى، وتمنع من تحولها إلى سلطة مطلقة .
8 - الأمة هي مصدر السلطة :
تنتزع الديمقراطية سلطة الحاكم المطلق، وتمنحها للشعب الذي بات بفضل الديمقراطية هو مصدر السلطة، بانتخابه الحر للسلطتين التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (رئيس الدولة) .
9 – مبدأ المساواة :
لعل من أبرز حسنات الديمقراطية معاملة كافة المواطنين على صعيد المساواة، دون تمييز تحت أية ذريعة، وهذه المساواة بين شرائح المجتمع كفيلة بالقضاء على الاحتراب الداخلي .
10 - مبدأ الأغلبية : هو مبدأ أساسي في الممارسة الديموقراطية، وهو يعني الأخذ بالقرار الذي يحوز أكثر الأصوات، وعندما يحصل حزب أو تحالف سياسي على عدد من الأصوات يفوق ما حصل عليه منافسوه يقال إنه حصل على "الأغلبية"، وهذه الأغلبية هي الشرط لتمرير القوانين والتعديلات المؤسسية الكبرى ذات الحساسية، وقد صار مفهوم الأغلبية أساساً للممارسة الديمقراطية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبات هو قطبَ الرحى في التناوب السياسي الذي هو جوهر الديمقراطية، حتى إن الأنظمة الشمولية الدكتاتورية لم تعد قادرة على تجاهل الأغلبية، لكنها تدور حوله بتزوبر الأصوات تارة، ووضع العوائق أمام المنافسين تارة أخرى، والتحول تارة ثالثة عن الانتخابات التنافسية التي يتنافس فيها عدة مرشحين إلى الاكتفاء بمرشح واحد ينافس شعبه، ويجبر الناس على قبوله؛ حتى وإن كان أكبر الخائنين للوطن (؟!)
11 - أدوات الديمقراطية :
ليست الديمقراطية مجرد أفكار نظرية، فقد أبدع المؤسسون جملة من الأدوات التي جعلت الديمقراطية أشبه بجهاز بالغ التقانة، منها مثلاً :
- الأحزاب السياسية : التي تتولى نشر الثقافة الديمقراطية، وتتداول السلطة .
- منظمات المجتمع المدني : التي تتولى تجييش الجماهير للتظاهر ضد أي خلل يطرأ على العمل الحكومي .
- المعارضة : فالديمقراطية لا تنمو إلا في جو من المعارضة التي تشكل العين الساهرة على العملية الديمقراطية، ومن هنا نجد حرص الديمقراطية على وجود معارضة فاعلة تساعد في إبقاء مسيرة الديمقراطية على السكة الصحيحة، وإذا لم توجد معارضة عملت الديموقراطية على صناعة معارضة حقيقية تقوم بهذا الدور، ومما تجدر ملاحظته في هذا السياق أن التجارب الديمقراطية العريقة انتهت إلى إبراز حزبين رئيسين هما اللذان يقودان السياسة، كما هي الحال مثلاً في بريطانيا (حزب العمال + حزب المحافظين) والولايات المتحدة (الحزب الجمهوري + الحزب الديمقراطي) ففي كل دورة انتخابية يفوز أحد الحزبين، ويتحول الآخر تلقائياً إلى معارض، يرصد عمل الحكومة، حفاظاً على سير العملية الديمقراطية .
- الإعلام : تتولى وسائل الإعلام المختلفة توعية المواطنين بالشؤون العامة التي تتولاها الحكومة، فهذه الوسائل تقوم – إلى جانب وسائل الإعلام - بدور العين الساهرة التي تنبه إلى مواضع الخلل والأخطاء والتجاوزات .. وتنقل – في المقابل - للمسؤولين هموم المواطنين، وتوفر فرصة للحوار وتبادل الرأي بين هؤلاء وهؤلاء، مما يثري الساحة السياسية، ويدعم اللحمة بين المواطنين والمسؤولين .. وحتى يؤتي الإعلام ثمرات عملية ينبغي ألا يكتفي بنشر المعلومات، أو النقد، أو نشر الفضائح، بل عليه تقديم الرؤى التي تساهم بإنضاج الفكر السياسي في المجتمع وتعميق الثقافة الديمقراطية .
- المحكمة الدستورية : التي تسهر على حماية الدستور، من خلال الفصل بمدى دستورية أو عدم دستورية أي قرار أو مرسوم أو قانون يصدر عن مؤسسات الدولة، وهي التي تفصل كذلك في النزاعات التي قد تنشأ بين مؤسسات الدولة .
- البرلمان : هو الذي يتولى (السلطة التشريعية) في الدولة، وينتخب نواب البرلمان مباشرة من الشعب، وبهذا يكون الشعب هو صاحب هذه السلطة من خلال نوابه، كما وبما أن البرلمان الذي يمنح الثقة للسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء والوزراء) فإن الشعب في النظام الديمقراطي هو صاحب السلطة في الدولة . وبهذا شكل النظام البرلماني نهاية حقبة السلطة المطلقة التي كانت بيد الملك أو السسلطان أو الإمبراطور.
- الانتخابات : وهي الأداة العملية التي تمكن الشعب من انتخاب من يمثلونه في السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة التنفيذية (رئيس الدولة + رئيس الحكومة) .
- الصلاحيات : في الأنظمة الديمقراطية يحدد الدستور اختصاصات الحكومة وصلاحيات كل مسؤول، وهذا ما يساعد في سير العمل الحكومي بسلاسة، دون تداخل الاختصاصات ولا تضارب الصلاحيات، كما أن هذا التحديد للاختصاصات والصلاحيات يجعل المحاسبة ممكنة عند وقوع أخطاء أو حصول فساد .
@ والخلاصة ..
- أن الديمقراطية ليست مجرد "صناديق انتخاب" كما يظن الكثيرون
- والديمقراطية لا تكون ديمقراطية حقاً إلا عندما تصبح جزاً من نسيج الدولة، لا ثوباً تلبسه الدولة متى تشاء وتخلعه متى تشاء .
- والديمقراطية ليست وسيلة للتخلص من الخصوم، ولا وسيلة للوصول إلى الحكم، وبعد الوصول تنتهي إلى الأدراج .
- والديمقراطية لا تقدر بكثرة الصحف والإذاعات والاجتماعات والشعارات .
- والديمقراطية مبدأ قانوني وأخلاقي لا تستقيم الحياة السياسية بدونه .
- والديمقراطية .. قبل هذا وذاك نظام اجتماعي أخلاقي قانوني يحترم حقوق المواطن، ويحمي الوطن، ويحفظ كرامته وهويته .
وسوم: العدد 945