إعادة الإعادة في نشر دون إفادة
(1)
أعود لنشر هذه المادة اليوم (2021) بعد إعادة نشرها مرة سابقة، ويبدو أن من كانوا يشغلون الاسطوانة تخديراً قد استغنوا عن ذلك، إذ لم يعودوا بحاجة إلى التخدير أو الخجل. تسع سنوات مرت على النشر الأول، ومرت سبع منها على إعادة نشرها أول مرة، وما زال العيب الفاضح المسمى "انقسام" قائماً، يا لبؤسنا.
(2)
عندما كتبت العمود الذي أعيد نشره هنا (2014) قبل ما يقارب السنتين، تمنيت أن يتم في أسرع وقت تكذيب هذه النغمة التشاؤمية التي تسيطر على شعور المستمع للأسطوانة المشروخة التي يتحدث عنها العمود، هذه من الأشياء القليلة التي تتمنى فيها أن يثبت خطؤك في قول تقوله. نعم تمنيت ذلك، ولكنني أجد نفسي أعيد نشره وأنا أرى الأسطوانة تدور ويساء استغلال الشرخ فيها بمهارة تجعل من يديرها يتخيل المستمعين بذاكرة قصيرة وأنهم في كل مرة سيعتقدون أن الدورة الحالية تحمل جديداً. آه يا وجعي، آه يا وجعنا.
أعذرونا على إعادة نشر العمود وبنصه وتاريخه القديم (2012).
(3)
الخبر والصورة والأسطوانة المشروخة
قبل أن تُقْرَأ كلماتي هذه ويتنطع أحد ما للقول "يا كاره ذاتك"، كما يفعل "أبناء العمومة" بمن يقف منهم وينتقدهم ويعرّي عنصريّتهم ويقف مع العدل، ولو كان يجافي مزاج أبناء جلدته، فيسمونه "كاره الذات"، أقول بوضوح وصراحة أنني أتمنى أن أرى اليوم الذي تزدهر في بلادنا التعددية وتتلاقح الأفكار المتعددة لتنتج ما هو إبداعي ومثمر ومستقر ويستحق الحياة لأجيال قادمة، وبالأخص السياسية منها، وذلك في جو "نموت" نحن الفلسطينيين في حبه ونسميه "الوحدة الوطنية"، فأعلن قبل كل شيء أنني أيضاً "أعيش" حباً لهذه الوحدة الوطنية. إلى هنا تنتهي مقدمتي الاحتياطية التي قد تحميني من التنطع الهجومي لأحدهم، أو قد تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن بالنسبة لرأس حامِ جداَ من هذه "القبيلة" أو تلك. لا يهم، فأكون قد عملت واجبي نحو حسني النية والطوية ونحو نفسي.
أنا أحب الوحدة الوطنية جداً ككل رجل وامرأة وطفل فلسطيني ولي فهمي النظري لها القائم على أن العمل لمصلحة الكل لا يلغي خصوصية الجزء وأن الأجزاء تستطيع أن تتكامل في كلٍّ بهيٍّ يسرّ الناظرين دون أن يبلع أحدها الآخر. ولكني بتّ لا أطيق، بل أكره، سماع أسطوانة المصالحة المشروخة. بتّ وأمسيت وأصبحت وأضحيت، وإن سمحت لي اللغة سأقول أظهرت وأعصرت، أستفز من قراءة عنوان يقول التقى الأحمد بأبي مرزوق، وأصبح أكثر حساسية لرؤية صورتهما يسلمّان على بعضهما "بحرارة" والضحكة تعلو ثغريهما، وأتوقع أن الكثيرين غيري يستفزون من قراءة هذا العنوان أو رؤية تلك الصورة.
قبل أن أنجرف إلى الحديث كسياسي، فأنا لا أريد أن أحلل الأمر سياسياً، فمدرسة السياسة التي كنت أنتمي إليها (لا أقصد الحزب) قد أغلقت أبوابها وتقاعد معلموها أو رحلوا عن هذه الفانية بملذاتها ومناصبها، من منصب المدير العام إلى منصب المدير الذي لم يعم وما لفّ لفّهما، وهجرتها الغالبية العظمى من طلبتها دون أن يرسبوا في أي من موضوعاتها المدرسية أو يحملوا مساقاً من مساقاتها الجامعية. قبل ذلك أروي قصة أتذكرها من مسلسل قديم، ربما كان من مسلسلات "غوار"، عساها تكفي وتغنيني عن قول كثير.
أُحضر رجل إلى مخفر الشرطة لأنه ضرب ولداً في الحارة من الأولاد الذين يلاحقونه ويصيحون به "دوّرها، دوّرها" هزءاً به لأنه يهز رأسه دائماً نتيجة عاهة ألمت به.
سأله رئيس المخفر: لماذا فعلت ذلك؟
أجاب الرجل: صلِّ على النبي سيدي.
قال رئيس المخفر: اللهم صلِّ عليه.
قال الرجل: زِد النبي صلاة.
رد الرئيس: عليه الصلاة والسلام.
قال الرجل: صلِّ على النبي سيدي.
ثار الرئيس: خلصني شو قصتك وإلاّ أخلع رقبتك.
قال الرجل: أنت ثرت يا سيدي من تكرار طلبي بالصلاة على النبي، فماذا أفعل أنا وهم يكررون "دوّرها" خلفي مئات المرات؟ أتلومني إن ثرت وضربت أحدهم؟!
ماذا يقول شعبنا وهو يسمع: طاروا إلى القاهرة، عادوا منها، استضافتهم الدوحة، عادوا منها، استضافتهم الرياض، عادوا منها، وأخيراً استضافتهم الرباط ربما حتى لا تزعل من حرمانها من حصة من بركتنا أو تفاؤلاً بنا لأننا أهل الرباط. ثم تلفّ الأسطوانة وتدور: التقينا، تباوسنا، تحادثنا، تقاربت وجهات نظر المتفاوضين، سيعود كل إلى قيادته للتشاور، التقينا بعد التشاور، اتفقنا على الملفات، رفعنا الجلسات لما بعد العيد، سنعود لإكمال الاتفاق على حصر الملفات التي سنتفاوض عليها، عدنا للقاء لنبدأ البحث بالملف الأول، أنجزنا 90% من الملف الأول، ليفرح الشعب، عدنا للتباحث بالملفات الأخرى، حدث تعثر في النقطة الأخيرة من الملف الأول، تباعدنا، تبادلنا التهم، نسينا الموضوع مدة طويلة، عدنا للتباحث رداً على العدوان الغاشم، سنستأنف البحث في الملف الأول، اقترب إنجاز الملف الثالث، التقوا، ضحكوا، سلّموا، تصافحوا، تحدّثوا، تفاءلوا، تبادلوا التهم بالتعطيل، عادوا والعود أحمد.....ودوّرها يا شعب عساها تدور.
من المخجل أن نتذكر هنا رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير الذي قال إنه كان ينوي أن "يمطمط" المفاوضات مع الفلسطينيين عشر سنوات لو بقي في السلطة، ولكن خوفي أن نُصيب الهدفَ الشاميري في التفاوض على ما لا يستحق التفاوض، التفاوض على الواضح الجلي، لعشر سنوات أو أن نهزمه في هذه بأن نتجاوز هدفه.
من حق هذا الشعب الصابر المناضل الرائع، ولكنه كمثل غيره من الشعوب ليس ملائكياً ولديه من الثقافة السائدة ما يقهر وما يعرقل تقدمه وتحرره، ولديه من قلة الصبر أحياناً ما يجعله يفاجئ الغريب والقريب، من حقه أن يُحترم عقلاً ومشاعر ومصلحة وطنية، ومن حقه أن يصرخ: زهقت "دوّرها" هذه، زهقتها يا بشر.
وسوم: العدد 947