حكاية الصبّار لم تنتهِ

كتب الأسير محمود العارضة لوالدته رسالة قصيرة قال فيها: «أنت في القلب والوجدان، وأبشرك بأنني تنسمت الحرية وصعدت جبال فلسطين، وتناولت التين والصبر والرمان والزعتر البري، وأكلت الجوافة بعد حرمان دام خمسة وعشرين عاماً».

أما شقيقه محمد، فروى لمحاميه أنه تمتع بأكل الزيتون والصبر في مرج ابن عامر، وأنه اليوم رغم التعذيب الوحشي الذي يتعرض له، يشعر بسعادة خفية لأنه استعاد علاقته بطعم بلاده، التي حاول السجّان الإسرائيلي أن يمحوها من ذاكرته.

الخبر عن الأسير القائد زكريا الزبيدي، أشار إلى إصاباته البليغة جراء التعذيب، كسر في فكه وكسور في أضلاعه، وهو يتعرض لتحقيق وحشي وسط آلامه المبرحة، لكنه لم يقل للمحقق الإسرائيلي سوى عبارة واحدة: «رأيت حفرة فخرجت».

أيهم كممجي ومناضل نفيعات اعتقلا فجر الأحد 19 أيلول/سبتمبر في منزل حاصرته قوات الأمن الإسرائيلية في مدينة جنين.

أما جنين ومخيمها، فهما في عين العاصفة، يستعيدان شيئاً من نبض مقاومة المخيم البطولية عام 2002، عندما حوّل الفدائيون الشهداء: أبو جندل وزياد العامر وعلاء الصبّاغ ورفاقهم، المخيم إلى قلعة للصمود والتحدي.

اعتقال أسرى نفق الحرية لا يعني أن الحكاية انتهت.

فهذه الحكاية لا نهاية لها، لذلك من الصعب أن نرويها. هذه هي سمة فلسطين، إنها حكاية عصية على الرواة، فهي كي تُروى يجب أن تُعاش، وحين تُعاش يُقتل أبطالها أو يؤسرون، لكنهم لا يندثرون، يتوالدون إلى ما لا نهاية، كأننا نعيش دائماً في أول الحكاية.

قائد في حركة الجهاد، فدائي ومجاهد دوّخ قوات الاحتلال، اسمه محمود العارضة، أمضى ربع قرن في سجون الاحتلال، يصير لحظة وطئت قدماه سهل مرج ابن عامر، طفلاً صغيراً، يستعيد حواسه التي لفتها العتمة، يعيد اكتشاف طعم الأشياء ونكهة الأرض، يصاب بسحر أساور ينابيع مرج ابن عامر، يقطف الزعتر البري، يعصر حبات الزيتون بيديه ويتذوق حلاوة مرارتها، يأكل التين والجوافة، ينحني على الصبّار، يقشر حبات الصبر المغطاة بالأشواك، وينتشي بحلاوة التين الشوكي.

عشرة محققين يتناوبون عليه، يعرونه من ثيابه، يمنعون عنه النوم، يضربونه بوحشية، يشبحونه وهو مكبل اليدين والرجلين، لكن الطفل الذي ولد في أعماقه لا يبالي، لأنه لمس الشمس بيديه المجرحتين من حفر النفق، واستنشق رائحة المكان، وعصر التراب مستخرجاً منه ماء الحرية.

بدلاً من أن يبدأ الأسرى برواية جلجلة التعذيب على أيدي الإسرائيليين، رووا عن متعة الحرية التي عاشوها أياماً قليلة، وبدل أن يخبرونا عن الصعوبات التي واجههوها كمطاردين، تحدثوا عن طعم الصبّار.

هل يستحق الصبّار كل هذا العذاب؟

لا أعلم كيف استطاعوا نزع قشرة الصبّار بأيديهم وكيف عبرت أصابعهم الأشواك.

الصبّار لم يرحل من الأرض بعد طرد أصحابها، بقي سياجاً للقرى المهدمة، وانتصر على السرو والصنوبر الذي زرعه المحتلون من أجل أن يبددوا معالم المكان.

الصبّار والكوفية هما أول منتوجين فلسطينيين تعرضا لمحاولتي سرقة وانتحال من قبل الغزاة الصهاينة. وكان فشل هاتين المحاولتين مدوياً.

فخلال حرب النكبة اعتمرت عناصر البالماخ، وهي قوات النخبة في الهاغاناه، الكوفية الفلسطينية، كإشارة إلى الانتماء الوهمي إلى المكان الفلسطيني، لكن سرعان ما هربت الكوفية عن رؤوس هؤلاء القتلة، وعادت إلى مكانها كعلامة فلسطينية وكإشارة إلى أن المقاومة مستمرة منذ ثورة 1936.

أما الصبّار فحكايته أكثر تعقيداً، إذ اعتُبر رمزاً لإسرائيل بصفته نبتة تقاوم الصحراء، وأُطلق على اليهود الذين ولدوا في فلسطين اسم الصابرا، الذي يجسد اليهودي الجديد.

لكن زهرة الصحراء تمردت على من أراد تزوير صورتها وصارت الحارس- الشاهد لأطلال القرى العربية الفلسطينية التي تم تدميرها وجرفها.

الفاكهة الحلوة المذاق التي تحمل عصارة الأرض وتتحصن بالشوك، وتحفر جذورها عميقاً في التراب أو تمتد أفقياً إلى ما لا نهاية، كانت الطعام والماء للأسرى الذين لم يتذوقوها منذ ربع قرن.

لا تسألوا كيف قشر فاكهة الصبّار من حفر نفقاً في سجن جلبوع واستعاد شمس حريته من باطن الأرض؟

هذه ليست أعجوبة، ولا علاقة لها بعالم الأساطير، الجواب سوف يأتيكم من رسالة زكريا الزبيدي إلى الاسرائيليين التي بعثها عبر محاميه افيغدور فيلدمان: «ماذا تتوقعون من شخص جوعتم والده عندما منعتوه من ممارسة مهنته في التعليم، ثم قتلتم والدته أمام ناظريه برصاصة قنّاص، وقتلتم شقيقه وأعزّ أصدقائه، ثم قتلتم 370 شخصاً من أبناء وبنات شعبه الذين يعيشون معه في مخيم اللاجئين الذي تبلغ مساحته كيلومتر مربع واحد، واعتقلتموه عشرين مرة، وفي كل مرة مارستم على جسده ونفسيته التعذيب، وجعلتموه معوقاً وهو في عزّ شبابه؟».

رسالة زكريا للإسرائيليين سواء وصلت أم لم تصل، هي الحقيقة التي جعلت من فعل المقاومة مرادفاً للحياة، ومن فتى الانتفاضتين قائداً تنتظر فلسطين أمثاله كي يستعيد الحق الفلسطيني علاقته بحقيقة الاحتلال الوحشي، والعنصرية وشهوة إبادة الآخر، التي تسيطر على الصهاينة.

نفق الحرية لم يكن انتصاراً على العدو، بل كان انتصاراً على الذات. شعور المرارة الذي يكاد يخنقنا ونحن نرى عشاق الحرية مكبلي الأيدي والأرجل، يجب أن لا يحجب حقيقة أن النفق لم يكن سوى محاولة أخرى كي تنتصر فيها الضحية لنفسها وترمم صورتها وتستعيد صوتها.

هل عُلّق الفدائي «فوق صبار البراري»؟ كما كتب عبد الرحيم الشيخ في مقطوعته الشعرية الرائعة التي يستعيد فيها صورة زكريا الذي كان عليه أن «يختار فأسه من بنادقهم» أم أن الفدائي نزل عن صليبه ليمشي فوق الأرض، ويحوّل الصبّار ماء وخمراً للروح، كما فعل أول الفلسطينيين الذي عُلق على الصليب منذ ألفي عام؟

استمعوا إلى الصبّار أو الصبر، كما نسميه في العامية، وهو ينطق حكمته.

تقول حكمة الصبر إن إعادة اعتقال الفدائيين الستة ليست الخاتمة، بل ربما كانت العودة إلى النفق هي الحكاية، التي تصنع أولها كل يوم من مزيج شوك الصبّار وحلاوته.

وسوم: العدد 947